لحظات من رحمة المرض /أ. سميرة .ب
نوبات المرض مفاجئة..ليست بالخادعة لكنها مباغتة..تأتينا على غير موعد منتظر على الإطلاق، هي حانية لكنها مؤلمة..هي مضعفة..لكنها معلمة، تعطي دروس التوبة.. لم نكن نفهمها إلا ونحن مرضى.
لا ينبغي أن ننظر للمرض على أنه سلاح فتاك للصحة بالعكس، له جانبه الايجابي، ونحن مرضى تتوقف بنا رحلة الحياة لنرتاح، لأن الرحلة في حد ذاتها تتعب ولديها كل الحق في أن تتعب..هذه الرحلة هي جسد الإنسان وروحه ومعنوياته وتفاعله مع المحيط، وتجاوبه مع الخير والشر.إذن حينما تتوقف الرحلة هي إشارة حمراء أن الكل تعب في تعاطيه وانسجامه مع نواميس الحياة، الجسم منهك والروح ملت والقلب يبلى كما يبلى الإيمان، فلابد من تجديد في ظلام المرض لكنه فيما بعد يحمل بشائر الخير، وأولاها استعادة الصحة والعافية أحسن من ذي قبل، فهل فعلا فهمنا معادلة المرض؟.
في قطار الحياة مرارة العيش نستسيغها بنوع من التحدي والمقاومة، لكن صداها أصبح لا يصل إلى العقول والقلوب، فينال منا التعب والملل واليأس..لكنه ليس يأسا من الله بقدر ما هو يأس سببه قسوة الأحباب، لم يشفقوا على ضعفنا الذي آل بنا إلى لزوم الفراش..آهاتنا بلغت عنان السماء من الألم والحسرة والندم..لكن لم ينفع ندم بعد سقوط الأقنعة..فأي ندم نصارع وجوده بداخلنا؟..هو ندم أننا أحببنا بصدق ليس إلا..هو ندم أننا كنا ساذجين في تعاطينا مع حقيقة الحياة..لكني اعتقد أن هذا الندم مؤقت حتى إنه ليس حقيقيا..جاء في لحظة يأس..لأن المؤمن ليس له ما يندم عليه ما دام يدير طاحونة الخير بيديه الكريمتين لأنه شيء معتاد في مسيرته التي أرادها من الخير، وللخير تنتمي..
لذا كانت هذه اللحظات رحيمة بنا ولو أنها متعبة للقوى..كشفت كل مستور..وكشفت كل ما في بئر مشاعر الحقد والغيرة..لحظات المرض كانت كناقوس الخطر تدق في كل أنحاء الكيان الآدمي: إنك يا بن آدم في خطر..إنك مهدد ربما للزوال..ربما لعاهة..ربما وربما..هي في الغيبيات وليست في علمنا.
حتى وإن حبانا الله بقوة، يجب أن لا ننسى أن لهذه القوة ضعفا ينال من جوهر لمعانها، فنركن للراحة رغما عن إرادتنا، لأن إرادة الله فوق إرادتنا..صحيح واجباتنا كثيرة ومسؤولياتنا أكبر خاصة مع الله وأي تأخير منا في تلبية الواجب الرباني يصبح تأخرا غير محمود..هذا فقهنا كبشر مؤمنين بأحقية رسالة الله في الأرض، لكن الله أراده رحمة وراحة، لأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها..ثم الله أدرى لما سنؤول إليه من مفاجآت في هذه الدنيا التي نكافح ونكابد على أن لا نموت إلا موتة هنية آو نعيش عيشة كريمة.
لنحمد الله على أن جعل من أقلامنا متنفسا لما في صدورنا وتعبيرا لضعف ليس بالقاضي علينا، بل هو مصقل لمعدن الربانية فينا..لا نزكي أنفسنا ولكن نزكي رحمة الله فينا.
إذن تختلف الرؤى وتتنوع الآراء بشأن المرض، هناك من يراه نقمة لأنه أفسد نواعم العيش الرغيد بكماليات الدنيا الزائلة والمنتهية بانتهاء الصلاحية الدنيوية، وهناك من يرى أنه مانع من جمع الذهب والفضة، حتى أصبح التنجيم شغل الأطباء لاستعادة العافية بعيدا عن حكمة التطبيب بطب أصيل هو البديل لطب مفبرك..وهناك من يراه معطلا للتمتع بنشوة كرسي السلطة بتخمة بطون سلاطين الإنس والجان حتى ظن الملوك أن في مزامير داوود وصفة شفاء خارقة لخلطات السحر الساحرة..أو في اختيار كرسي سليمان ما تخبئه كنوز تحت عظمة السلطة وبتسخير الجن في غدو الريح ورواحها.
هي آراء تافهة وليست بالقيمة ولا بالنافعة..لكن عند الأتقياء هي لحظات مدفوعة الأجر في ثوب المغفرة والغفران..هي لحظات ركون للاستغفار والتسبيح، ففي الحياة محطات استغفار عظيمة عظم التوحيد والتسبيح بالواحد الأحد.
ولكي يطول عمر العطاء، يجب على هذا الجسد أن يتغذى بمناعة المقاومة بتقوى الله، فأمراض العصر فتاكة بل قاتلة، وفيروساتها محطمة للعقيدة ولأوثق عرى الإيمان..في هذه اللحظة يتبادر إلى ذهني، متى نتفكر بعمق في الله عز وجل؟ أليس ونحن مرضى..متى نلجأ إليه؟ أليس في لحظات الضعف؟ أليس الله بكاف عبده؟ أليس الله برحيم بمريضه؟
ألم نخالف قاعدة اعرف ربك؟ بمعنى أن نعرف الله في كل الأوقات وفي كل الظروف..في الفرح وفي القرح..في الألم وفي الرخاء..في السعادة وفي الحزن، لكن هوى النفس يزين أعمالنا، ستقولون أن هوى النفس موجود بل ملازم للنفس الأمارة بالسوء، ولكن الله خلق كل شيء بميزان الاعتدال، وفي المرض يقظة من غفلة النسيان شئنا أم أبينا، فتن الدنيا أمواج عاتية تقذف بنا في كل مكان والسند الذي يعيننا على الصمود غير موجود..أنا لا أعني سند الله لأنه سند قائم بوجود الربوبية، بل أعني سند الإخوان والأهل..؟ لأنهم يغيبون عنا حينما نفقد توازن العطاء بالمرض..هي موجودة في سنة الأولين مع سيدنا أيوب عليه السلام حينما تفرق عنه الأهل ما عدا الزوجة الكريمة كرم الأتقياء. لا لشيء سوى أن الإيمان ليس مستقرا في القلوب..بل أضحى قولا دون عمل..وعدا دون التزام..
مؤسف جدا أن أكتب في الورع ونحن أهل لا اله إلا الله..محمد رسول الله..والله عيب أن أكتب فيما المفروض أن لا أكتب فيه لأنه مناقض لما تكنه صدورنا من ولاء لأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم..ثم من يقرأ أسطري هم إخواني وأخواتي..هم من إسلامي وقرآني وعروبتي فلم التناقض ولم اضطر لكتابة ما فيه مفارقات فرضتها عولمة الأخلاق.
لكني أكتب لكل مريض في هذه اللحظة وهو يقرأ عن لحظات المرض، أدعو كل مريض ليسبح بآهاته الله الأحد..