الأحزاب.. وميزاب السراب
تزاحمت في عقلي المواضيع المصيرية، المغرية بالبحث والمعالجة في هذا العمود الافتتاحي، وما منها إلا له مكان معلوم على سطح الخارطة الوطنية، أو العربية، أو الإسلامية، بل وحتى العالمية.
فالجرح الغائر والنازف في جسم شعبنا السوري الشقيق، والذي ينعي إلينا في كل يوم عشرات الضحايا، من مختلف الأعمار، إن هذا الجرح يلقي بكلكله على ضمير كل مسلم، وكل إنسان مطالب بضرورة القيام بأي شيء من أجل مسح الدموع، وتبديد الظلمة بإشعال الشموع، وإعادة الطمأنينة، والبسمة إلى كل الجموع والربوع.
وهذا الجرح الجديد الذي فتح في جسم شعبنا المصري العزيز، الذي لم ينعم بفرحة التغيير، ولم يضمد جراحه من اعتصامات، ومظاهرات، واعتداءات البلطجية في ميدان التحرير، حتى ابتُليَ بجبهات أخرى غريبة، تجمعت على غير هدى، لتفسد على الناس حسن السير والتسيير.
وهذا اليمن، وهذا الصومال، وهذه ليبيا، وهذه تونس، وهذه مالي، وكل حلقة من هذه الحلقات تحكي مآسي الماضي والحاضر، في محاولات لزعزعة الاستقرار، وتشديد النكير.
كان لابد –إذن- من الالتفاتة إلى كل هذه البقع الحمراء في خارطة العالم الإسلامي، لاستئصال أسباب تأزمها، وتوعية الجميع بضرورة التصدي لها، قبل أن يستفحل أمرها، ويعسر جبرها، ولكن ما الحيلة، ومنطق الواقع يفرض علينا الالتفات إلى المقدمات لتفادي النتائج، وإن الحرب كما في أدبياتنا العربية أولها كلام؟
وما الواقع الذي نعنيه إلا واقعنا الجزائري المريض بأحزابه، المخيف بسرابه، المحتقن بعنف شبابه. فهذه الأعراض التأزمية السلبية، التي تطفو على سطح واقعنا السياسي، إنما يعكسها التأزم الحزبي، الذي بدأ بالإطاحة بالرؤوس، ليقتلع فيما بعد كل الجلوس، ويكسر المحابر والكؤوس.
إن المتأمل في الواقع الحزبي الجزائري، اليوم، ليدرك حكمة الله، في ربط الحزبية في القرآن، بالاختلاف والفرقة. فالآيات الكثيرة التي تذكر الأحزاب، تقرنها دوما بالأوصاف المشينة، من أمثال: ﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾(سورة الرعد، الآية 36)، ﴿فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾(سورة مريم، الآية 37)، ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ﴾(سورة ص، الآية 11)، ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ﴾(سورة غافر، الآية 30).
إن هذه الآيات وغيرها، تعكس الوجه السلبي لمختلف الدلالات التي تحتويها معاني الأحزاب. والحقيقة أن الأحزاب في مفهوم النظام الديمقراطي هي مظاهر صحة سياسية، وعلامة وعي شعبي، وأداة للتغيير السلمي، بعيدا عن الشحناء والبغضاء، والفحشاء، والإيذاء. فما بال الأحزاب عندنا حادت عن أصلها الديمقراطي فأصبحت ميزابا للسراب، والخراب، وكل أنواع المعاناة والعذاب.
كانت تشدني في الكتاب الأخضر خلال العهد الليبي البائد عبارة: “من تحزب خان”، وكنت أضحك منها، وأتندر بها، ولكنها بعد إخضاعها للتأمل العلمي والعقلي، نكتشف أنها –على عكس ما في الكتاب الأخضر من النشاز- لا تخلو من بعض الحقائق.
فالحزبية إذا لم تقم على وازع خلقي يحرسها، وعلى أساس ديني يرقبها، وعلى ضمير وطني يحفظها، تتحول إلى خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين. فقد أفرغت الأحزاب –عندنا- من مضامينها الصحيحة وهي إعداد الجماهير، وتوعية المناضلين، ونشر ثقافة الكفاءة، والنزاهة، والإخلاص، التي من نتائجها التسامح مع المخالفين، والتداول على السلطة بين المسؤولين الأكفاء المؤهلين، واختزلت في معنى واحد سخيف هو السلطة، فأصبحت الأحزاب مقرونة بالانتخاب، وما يصاحبها من بيع للذمم، وفساد للهمم، ومتاجرة بالأصوات في سوق النخاسة، وبؤر القُمم.
فكلما حل الاقتراع، كثرت الأوجاع، واشتد الصراع، وبذلت الأموال، واشتريت الضمائر من سقط المتاع. فأحييت العروشية، وبعثت القبلية والطائفية والعشائرية، وعمت بذلك المصائب والبلية.
والسؤال، لماذا فقدت الحزبية في بلادنا معناها الرشيد، ومنهجها السديد؟ إن ذلك يعود إلى أن الحزب في مفهومه الصحيح لا يتغذى من الخزينة العامة، وإنما من جيوب المناضلين المؤمنين بمبادئه، وأهدافه.. فيضمنون بذاك استقلالية الحزب عن كل تبعية، وينأون به عن كل خنوع أو خضوع أو اتباعية، فلا يتخذ من هدف أو غاية له إلا خدمة الوطن والمواطن..
وإنه ليؤسفنا –والله- أن نرى الأحزاب تنبت كالفقاقيع، وأن التجوال بين الأحزاب أصبح هو القاعدة، وليس الثبات على المبادئ الحزبية، فحل بذلك هذا الفساد، وهذا الصراع، وهذا الانقسام الذي لا يخلو منه حزب. ولن تعالج هذه الأزمات الحزبية إلا بإعادة النظر في قانون الأحزاب، وذلك بوضع قوانين صارمة وثابتة لتأسيس الأحزاب، وأهمها ضمان حرية الانتخاب، ومراقبة مصادر الاكتساب، وتحديد معايير تولي مسؤولية قيادة الأحزاب، وغلق باب الخزينة العامة، وربط الأحزاب بالاكتتاب والانتساب.
فإذا لم نفعل ذلك، فلا تلوموا سطو الذئاب على الأحزاب، وما نتيجة ذلك كله من تبديد وخراب، كما هو مشاهد اليوم، من تحول الأحزاب إلى ميزاب للسراب، وكؤوس للشراب والعذاب والاكتئاب.