الإسلام والغرب : نحو رؤى جديدة تزيح آليات الاستشراق القديم/عبد القادر قلاتي
منذ نحو نصف قرن تقريباً عاد الإسلام كأحد الأديان الأكثر حضوراً بين الأديان في العالم،وبدأ يأخذ حيزاً واسعاً من اهتما م الغرب بالآخر باعتباره يملك قدرة معرفية هائلة على استقطاب أتباعه، وإغراء الآخر الذي فقد الثقة في الإيديولوجيات المنتشرة في الغرب، ومن ثم بدأت نظرة الغرب تأخذ معطى جديداً في تناول الإسلام كمزاحم لثقافته.
«خلال هذا الاهتمام اعتمد الغرب المعرفة والمؤسسة بكل عطائهما التداولي لقراءة الإسلام المعاصر وتعددت أوجه الرؤى، منها ما هو سلبي وآخر ايجابي، لكن الأول هو الغالب على مدى عقود طويلة، إلا أن متغيرات العصر حتمت ظهور رؤى جديدة كان منها أن تعيد المركزية الغربية النظر في مواجهاتها إزاء الإسلام المعاصر» الذي أخذ مسميات عدة في القاموس الغربي؛ فهو الإسلام السياسي، وهو الأصولية الإسلامية، وهو الإرهاب الإسلامي، واشتقاقات أخرى تؤكد الاهتمام المفرط بالإسلام المعاصر، وفي ظل هذا الاهتمام ظهرت رؤى جديدة أسماها الباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول برؤى ما بعد الاستشراق؛ هذه الرؤى الايجابية التي كان من أسبابها وجود الجاليات الإسلامية الوفيرة في عددها داخل الدول الأوروبية والغربية الأخرى، إلى جانب المجهودات الفكرية والفلسفية التي سعت إلى تقويض المركزية الغربية وفي مقدمها مجهودات الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» الذي دعا إلى فك المركز باتجاه الأطراف، إلى جانب ذلك هناك رؤية «ميشيل فوكو» الذي اقترح تجاوز المناطق المعرفية التقليدية التي انكب عليها الفكر منذ أكثر من ألفي عام؛ وهي دعوة ضمنية إلى دراسة الهامش والأطراف الحضارية والثقافية على ضوء منهجيات استقرائية.
ونستقرىء الرؤى الجديدة في تميزها عن الرؤى التقليدية التي كرّست في المخيلة الغربية صورة قاتمة عن الإسلام ، فقد جاءت هذه الرؤى لتعطي نفساً جديداً للحوار بين الحضارات وتكريسه كتيار وحيد بدل الصدام والمواجهة « فهناك رؤى ايجابية نجدها في الرؤية الأمريكية العامة تجاه الإسلام لدى ماريشال هودغسون، وزاركمان و صاموئيل هنتنغتون…كدالة سلبية تفرض المقارنة بين المواقف السلبية والايجابية….ثم عند ويل ايكمان وتيموس ميتشل وجون ايسبوسيتو وغراهام فولر» فلا شك أن هناك افتراقاً داخل الولايات المتحدة الأميركية في نظرتها الكلية إلى الإسلام المعاصر، وهذه الرؤية بطبيعتها قائمة على أساس سياسي وهو شأن النظرة الأميركية إلى الإسلام منذ نشأت حتى اليوم.
وفي إطار خاص يحدد الدكتور «روبرت بللترو» الرؤية الأميركية السياسية إلى «الإسلام السياسي» كما يفضل التسمية أو«المد الإسلامي» كمصطلح رديف فيقول: «إننا ننظر إلى الإسلام باحترام بالغ، فالاستلام هو أحد الحركات التاريخية المتمدنة التي أثرت في حضارتنا، وإنه على الرغم مما يثير أحياناً من استغلال مبادئ ورموز الإسلام من قبل المتطرفين؛ فان ذلك يجب ألا يعمينا عن شرعية الدراسات والنقاشات الواسعة حول الدور المناسب الذي يلعبه الإسلام…» وعلى الرغم من التناقض في هذه الرؤية التي تتسم بالإيحاءات أحياناً، وبالسلب أحياناً أخرى إلا أنها تمثل رؤية مغايرة لما عهدناه في خطاب السياسة الأميركية تجاه الإسلام. وقبل أن نمضي في تأكيد هذا التناقض، أو اللجوء إلى ما يؤثره غير الأميركيين على هذه الرؤية. نلاحظ النقد الذي يوجهه عدد من الأكاديميين الأميركيين أنفسهم إلى رؤية السياسيين داخل الولايات المتحدة الأميركية، هذا النقد الذي خلق نمطاً جديداً من التفكير والتأثير على صناع السياسة الأميركية ، بالطبع فإن هذا النمط سيجد له مديات للإصغاء في المؤسسة العلمية ، وسيتطور في المستقبل القريب وسيجد تداعياته في الوطن العربي والآفاق الإسلامية عامة.
ومن النماذج المتفردة التي نختارها ضمن هذا الخط الباحث والجامعي الأميركي «هودغسون»، الذي وافته المنية مبكراً عام 1968 فقد جاء في كتابه «الإسلام في التاريخ العالمي» دعوة إلى نقض دعاوى المركزية الغربية، والى إحلال معاينة أكثر دقة للوقائع والإدراكات عن الإسلام وعزلها عن سطوة المصلحة السياسية مع الوجود الإسلامي، وهي رؤية تبدو معرفية خالصة في فكر المثاقفة الغربي، لكنها وإن بدت وحيدة ومحكمة عبر أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، نرى أنها رؤية تأسيسية في الموقف الأميركي تجاه الإسلام، والى جانب الرؤية الأميركية هناك رؤى جديدة ظهرت في أوروبا وتحديداً المنظومة الاستشراقية الألمانية المعاصرة، ومن ذلك عالم المشرقيات «جير نوت روتر» والذي يمثل نموذجاً لهذا التحول في علاقة الغرب بالإسلام، وينطلق «روتر» من نظرية(العدو الوهمي) التي افترضها الغرب في مرحلة القطبية الثنائية (الرأسمالية والاشتراكية)؛ وهي النظرة التي تبددت عند انهيار القطبية الاشتراكية، ولكن هذه النظرية عادت إلى الواجهة من جديد وتحديداً في حرب الخليج، يقول روتر: «عندما انقض صدام حسين على الكويت مهدداً إمدادات الغرب بالطاقة جاء هذا الاعتماد في الوقت المناسب تماماً إلى درجة أن البعض لم يشأ أن يصدق في الواقع أن هذا قد حدث من قبيل الصدفة ليقدم عدواً وهمياً جديداً هو الإسلام…»، ويتابع روتر: «إن الغرب سيكون قد حقق الكثير من علاقته بالحضارة الأكثر قرباً له إذا توصل إلى حوار معها يخلو من الكراهية والعنف»، وغير بعيد عن ألمانيا جاءت رؤية «انجمار كارلسون» من السويد لإثارة أسئلة وأجوبة متعددة عن موضوعات العلاقة بين الغرب و الإسلام وهذا في كتاب له بعنوان: «الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة؟»، يقول: «إن الإحساس بالخوف من الدين الذي يسود في مجتمعنا العلماني والتجاري بصفة عامة قد امتدّ وشمل العالم الإسلامي كله كتلة موحدة وكنتيجة طبيعة لهذا الإسقاط، أصبحت نظرتنا إلى أي عمل من أعمال العبادة والتقوى وممارسة الشعائر سلبية نظراً لأنها ترمز إلى التطرف والتعصب حتى ولو كانت هذه الأعمال تقتصر على أداء الصلوات في المساجد…»، ثم يواصل المقارنة بين ثنايا هذا الخوف فيؤكد أن العداء الإسلامي للغرب هو أحدث عمراً من مثيله لدى الغرب رغم الحروب الصليبية وطرد المسلمين من إسبانيا لم تتكرس صورة الغرب كعدو دائم في أذهان العربي.
إن هذه الرؤى تعبر عن رؤية جديدة لدى الغرب في دراسة الإسلام المعاصر، كونها تنحو إلى الاختلاف في قراءة الظاهرة الإسلامية وهي بقدر ما تستند إلى منزع تأويلي ، نراها تركن إلى الاستقراء والمعاينة المباشرة لمعطيات هذه الظاهرة، وبالتالي تشكل هذه الرؤى نظرة جديدة في جدلية العلاقة بين الغرب والإسلام.