هيا ادفنوا موتاكم… وانهضوا..!

اشهدي يا رمال..! واكتبي يا جبال! واذكري يا جِمال، أنّ الإرهاب والسراب قد أضحيا –في وطننا- حقيقة مرّة. فهذه الدماء الغزيرة التي خضبت ترابنا، ورملت نساءنا، ويتمت أطفالنا، إنْ هي إلا نتيجة إرهاب أجنبي عن فكرنا، لم تضعه أرضنا، ولم يستوعبه شعبنا، وإنّما نسجته جنسيات غريبة الانتماء، وأسلحة غريبة الاعتداء، وذهنيات ضلت الاهتداء.

وهذا الذي كان يتراءى للساري سرابًا، يحسبه الضمآن ماءً في صحراء قلّ ماؤها، ونماؤها، وكثر زيتها وهواؤها، إنّه أصبح للبعض حقيقة مرّة، تجذب لنا السلاح و”الجيّاح”، وتطرد عنّا الخبراء والسياح.

فكيف خلت صحراؤنا من النمور والأسود، وصارت مفتوحة الأجواء والحدود، ومرتعًا للضباع والفهود؟ فيا آبار ابلعي ماءك وزيتك، فقد عقد “هولاكو” العصر، العزم على نزع خيامك وهدم مضجعك وبيتك.

فماذا بعد الإرهاب، والسراب، والخراب إلا أشلاء بعثرت، وأجساد بُقِرت، وأرواح فُقِدت؟ وأقبل البعض على البعض يتلاومون، تالله إن كنّا لفي ضلال مبين. فلقد استسمنّا ذا وَرَم، واستضعفنا ذا سَنَم؛ فما تحقق الورم ولا أجدى السنم، وها نحن نضمد جراحنا، ونلملم أتراحنا، فندفن في حزن موتانا، ونخفي في كبرياء أسانا.

إنّ مأساة “عين أم الناس” أو “إنْ أمناس” كما يحلو للمستعربين تسميتها، إنّ هذه المأساة، يجب أن تكون لنا، بما جلبت من عار وشنار، ودمار الموقظ لنا من سباتنا وغفلتنا، وإنّنا باسم الوفاء لمن دفنا من الضحايا، ينبغي أن ننهض بعد الدفن، لنعيد البناء، ونستأنف عملية التعمير والنماء، وإنّها –والله- للعملية الشّاقة التي تتطلب الكثير من الجهد والجهاد، وتغيير ذهنيات العباد، وأمور البلاد، ومن هنا نبدأ.

لقد اكتشفنا –من خلال قراءة ما وقع- مدى الهشاشة التي نعانيها في حماية حدودنا، وتوزيع جنودنا، وصيانة سدودنا، وكذلك تشبثنا بالفصوص والنصوص، فدخل المعتدون واللصوص، وكيف ننهض من كبوتنا التي كلفتنا الكثير؟.

إنّ البداية تكون بتحصين الحدود التي تبدأ بتحصين الذات من العمال إلى الجنود. وإنّ التحصين الحقيقي يكون –كما قال الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)- بالعدل، فلنحصن واقعنا بالعدل، حتى لا يجد الخصم والمعتدي، الثلمة التي ينفذ منها إلى ذاتنا، فيغريها بسراب التفكير، ودعوة التغيير، وحرية الاستيراد والتصدير.

كما أنّ الشباب هو الحلقة الضعيفة في سلسلة البناء الهيكلي، وتحت وطأة عوامل شتّى أبرزها ضعف التكوين، ونقص الوازع الديني، والبطالة، وعدم التمهين، وهو ما ساعد على إفراغ عقل شبابنا من كلّ وعي رصين، وملأه بملذات المجون والمخدرات، والعنف والسطو، والعدوان على الآخرين.

يعاني شبابنا من التطرّف بسبب ما نعانيه نحن من سوء التصرف. فمنظومتنا التربوية، وهي المصنع الحقيقي لبناء الإنسان قد دهاها ما دهاها، وأضحت تعلّم، ولا تربي، وحتى عندما تعلم فأيّ تعليم نعلمه؟ وما ذلك إلا بسبب إسناد الأمر إلى غير أهله.

فلنبدأ –إذن- في نهوضنا بتأصيل تكوين أبنائنا بزرع مبدأ الانتماء الوطني في اللسان واللهات، والعمق الحضاري في الفكر وفي الذات، والوازع الخلقي في السلوك والمعاملات.

هذه –إذن- على الصعيد الوطني، فإذا عدنا إلى الصعيد الإقليمي؛ أي إلى صحرائنا فإننا نجد أنّ عملية السطو والعدوانية قد أجهضت على الإنسان في صحرائنا، فغيرت سحنته، وأفرغت شحنته، فأضحى ينشد السراب وأي سراب؟ ليعوض به ما ضاع من حسن العادات والطباع.

إنّ ابن الصحراء الجزائرية قد أصبح عرضة لكل الأطماع، لأنّه صار أشبه بالعيس في صحرائه، يقتلها الضمأ، والماء فوق ظهورها محمول، فهو محروم من خيرات بلده الطيّبة، لا يجد العمل الذي يحميه، والمسكن الذي يأويه، والزواج الذي يقيه، فصارت تنصب له الفخاخ الداخلية والخارجية التي تهوي به وترديه.

فإذا ضممنا أزمة المواطن في الشمال إلى أزمة أخيه المواطن في الجنوب، تبيّن لنا أن التأزم الشمولي الذي يعانيه المواطن الجزائري بصفة عامة، يتمثل في غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، ويتجلى في تفشي الفساد، وغياب الردع والعدل، يضاف إلى كلّ ذلك الغليان الذي يحيط بوطننا ويطوقه من كلّ جانب، إلى جانب العنف بجميع أنواعه، الذي يطال البنين والبنات، ويسطو على المحلات والسكنات، ويمتد إلى التصادم داخل الأحزاب والمؤسسات.

ولك أن تجمع هذه المتضادات السالبات في عقل أي شاب أو أي مواطن، فماذا سينتج عنه؟.

فهل ستفتح محنة “عين أم الناس” عقولنا، وعيوننا، ووعينا على الواقع الوطني بواقعية وبصيرة؟ وهل سننهض –من كبوتنا- بعد أن دفنا موتانا، على منهج تغييري جديد، وإصلاح شمولي سديد، وإعادة النظر في كلّ شيء بـحزم شديد وعزم حديد؟

نحن لم نفقد الأمل، وليت ذلك يتحقق، ولكن هل ينفع شيباً ليت؟

Exit mobile version