دماء… وأشلاء… وأعداء في صحرائنا
ليس من التمكين للإرهاب، أو تمجيد فعله، القول بأنّ وجود القواعد العسكرية الاستعمارية على حدودنا، وعبورها لأجوائنا، واستعانتها بوسائلنا هو خطر على استقرارنا واعتداء على سيادتنا، واستفزاز لمشاعر شعبنا.
فهذا الصراع الدموي المأساوي الذي مزج تراب رملنا الذهبي، بدماء الأبرياء من أبناء شعبنا الأبي، والخبير البترولي الأجنبي، والمغرر به من الشاب الموصوف بالإرهابي. إنّ هذا الصراع إنْ نحن بحثنا أسبابه، سنجده في حقيقته يستهدف الجزائر كي لا تنعم بالوحدة والاستقرار فتحيي بين ربوعها حروب الطائفية والنعرات، ونزاعات الأعراق والقبائل والعائلات، أمّا حديث مكافحة الإرهاب، إنْ هو إلا سراب وضرب من الخرافات.
إنّ الإرهاب النظري المسوِّغ للإرهاب العملي، هو احتلال أراضي الشعوب بالاغتصاب، والاستيلاء على خيراتها بالحِراب، وترويع أبنائها في البحر والأرض والسحاب، وتحويل تعميرها وعمرانها إلى خراب.
لقد جاءت إلينا فرنسا المستعمِرَة بالأمس، لتعبر أجواءنا، باستعراض قواتها، زاعمة تحرير مالي الآمن المسلم من قبضة أبنائه الإسلاميين {وما كانوا أولياءه} {وما أرسلوا عليهم حافظين} وإنّما هو إثبات للوجود وتهديد للحدود، وإقامة لنوع من القواعد، والحواجز والسدود.
لعل من سذاجة العقل القول بأنّ في فرنسا صقور يمثلهم أهل اليمين، وحمائم يمثلهم أهل اليسار. فقد فهم البعض منّا هذا التصنيف التعسفي، عندما أرسل الحلف الأطلسي، بتحريض من زعيم اليمين الفرنسي “ساركوزي” قواته إلى ليبيا الشقيقة، لإحداث التغيير بالقوّة، فثارت ثائرة الجميع، بدء بالجزائر الرسمية، منددة بالتدخل الأجنبي في شؤون الشعوب.
واليوم وقد سقطت صقور اليمين الفرنسي، وجاءت حمائم اليسار المسالمة بقيادة “هولاند” وها هي ذي نفسها ترسل أسلحة الدمار إلى شعب مالي الأعزل لإحداث التغيير فيه، وبمباركة من الحلف الأطلسي، وتسهيلات من جزائرنا الرسمية، جزائر المليون شهيد.
فكيف أبحنا اليوم للحمائم ما حرمناه بالأمس على الصقور؟ {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}.
لا يا قوم! إنّ الاستعمار ملّة واحدة يستوي فيه اليمين واليسار، وكلّهم ثعالب {لا يرقبون في مسلم إلاّ ولا ذمّة} فأهل اليمين واليسار معًا، هم من رفضوا جميعًا الاعتراف بجرائمهم في الجزائر، والاعتذار لضحاياهم فيها، بل وذهبت الحماقة بهم إلى حدِّ مطالبتنا بتعويض مستوطنيهم فيما ارتكبوه، واكتسبوه في أرضنا.
إنّ ما يحدث على حدودنا الجنوبية في مالي الشقيق، إنْ هو إلاّ نتاج لما حدث على حدودنا الشرقية في ليبيا الشقيقة.
فالأسلحة الفتاكة التي سُرِّبت من خزان السلاح الليبي، والمرتزقة الذين أفلتوا من العقاب الليبي يمثلون المقدمة الفاسدة لما يحدث اليوم في مالي. وكنّا نحسب أنّ الجميع سيستفيد من تجارب الشعوب، وخاصّة ما حدث في ليبيا، ولكن ما راعنا إلاّ وأنّ التجربة الدموية تتكرر مع أنّ التاريخ لا يعيد نفسه، كما علّمنا علم التاريخ. فقد تبدّل المكان، وتغيّر الزمان، وتطوّر الإنسان، ولكن لم يتغيّر السجان والسلطان، فآه يا زمان.
ذكرني كلّ هذا بشاعر إفريقيا العربي محمد الفيتوري في رائعته الإفريقية التي يقول فيها:
جبهة العبد ونعل السيّد
وأنين الأسود المضطهد
وحكايات قرون، قد مضت
لم أعد أقبلها، لم أعد
***
كيف يستَعبِد أرضي أبيض؟
كيف يستَعمِر أمسي وغدي؟
كيف يخبو عمري في سجنه؟
وجدار السجن من صنع يدي!
نحن اليوم –إذن- أمام تحديات خطيرة، تستهدف الإرادة السياسية بالدرجة الأولى، والسيادة الوطنية بالدرجة الأولى، لمحاولة إعادة بسط النفوذ، وإملاء القوانين والشذوذ، لكسر بقايا مشاعر، وتحطيم كرامة الثورة والثائر، والاستيلاء في الأخير –عمليًا- على الجزائر.
فهل نستسلم؟ وهل نسلِّم بالواقع المرير؟ إنّ الموقف عسير، وإنّ التحدي خطير. فلئن استسلمنا، وانهزمنا، ونحن بلد المليون شهيد، وبعد انقضاء خمسين سنة على استعادة استقلالنا، لئن فعلنا ذلك، إنّا –إذن- لخاسرون.
وسنبوء بإثم الدماء، وفضاعة الأشلاء، وشماتة الأعداء.