التدخل الفرنسي: الحرب على مالي والأضرار في الجزائر!/أ.عبدالحميد عبدوس
لا يحتاج المرء إلى نظارات مقربة ليرى أن ما يحدث في مالي هو حرب استعمارية فرنسية جديدة، وأن إفريقيا لم تخرج بعد من العصر الكولونيالي لأن فرنسا، القوة الاستعمارية القديمة، وما زالت تتصرف في معظم الدول الإفريقية وكأنها ولايات من ولاياتها الداخلية أو مناطق ما يسمى “ممتلكات ما وراء البحار”.
والسؤال المطروح هو كم ستدوم الصورة الوردية والنغمة الانتصارية التي تقدمها السلطات الفرنسية وتروجها أغلب وسائل الإعلام عن واقع ومآل التدخل العسكري في مالي؟!
ورغم أن المرحلة الأولى من التدخل العسكري تعتبر من أسهل المراحل وأقلها خسائر بالنسبة للقوات الفرنسية، لأنها تعتمد أساسا على القصف الجوي الذي تتفوق فيه فرنسا تفوقا مطلقا على خصومها من المقاتلين الماليين، إلا أن سقوط ضابط فرنسي قتيلا في أول يوم من المعارك يؤشر على أن عملية “القط المتوحش” لن يكون مجرد عملية قنص وتدمير لعناصر وقوافل المسلمين من مقاتلي شمال مالي!
إن أمل فرنسا هو أن يكون التدخل العسكري حربا خاطفة وناجحة على غرار تدخل قواتها في ساحل العاج في سنة 2011، إلا أن الشكوك بدأت تحوم حول مدة حسم هذه الحرب التي من الممكن أن تتحول سريعا إلى ورطة حقيقية في الرمال الحارة والمتحركة للصحراء، وتأخذ مواصفات حرب مفتوحة وطويلة تكون لها نتائج وخيمة ليس على نفوذها في مالي وحدها، بل على نفوذها في كل منطقة إفريقيا التي مازالت تمدها بإحساس القوة الإمبراطورية، والأخطر أن تجر الجزائر إلى دفع ثمن المغامرة العسكرية الفرنسية!؟
لقد حضرت فرنسا لهذه الحرب منذ مدة طويلة، وأقنعت مجلس الأمن في شهر أكتوبر من العام الماضي بتبني الخيار العسكري بإصدار القرار 2085 ودفعت دول مجموعة “الإيكواس” في غرب إفريقيا إلى المساندة والمشاركة في عملية التدخل العسكري ، بينما ظلت الجزائر تنادي بضرورة إنضاج الحل السياسي عن طريق تشجيع المفاوضات بين فرقاء الأزمة المالية، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية كان يبدو أنها تفضل مقاربة سياسية حيث صرح الجنرال كارتر هام قائد قوات “أفريكوم” قبل أقل من شهر على التدخل العسكري الفرنسي في حوار لجريدة “لوموند” أن مقاربة الوضع في شمال مالي بطريقة عسكرية بحتة ستخفق، حتى وإن لم يستعد التحرك العسكري ولكنه طالب بإدراجه ضمن إستراتيجية أوسع.
ولم تكن أطراف الأزمة المالية معارضة للحوار، فقد صرح المتحدث باسم “حركة أنصار الدين” بقوله: ” لقد عبرنا عن نيتنا في تباحث الحل السلمي للأزمة، ولا ندري ماذا تغير..لقد مكثنا في الجزائر لأكثر من أسبوع ننتظر وصول وفد الحكومة المالية إلا أنه لم يصل إلى اليوم، وفي بوركينا فاسو التقينا بوفد عن الحكومة الانتقالية وشرعنا في الحوار قبل أن يفاجئنا رئيس الوزراء بتبرئة من الوفد وقال إنه لا يمثل الحكومة المالية”.
وهكذا صممت فرنسا على تحويل أزمة داخلية إلى حرب دولية، وعرقلت الفرقاء من التفاوض للوصول إلى حل سياسي كما حصل في إفريقيا الوسطى، وسارعت إلى تقمص زي الدركي ورفع عصا الحرب، بررت فرنسا تدخلها بضرورة صد هجوم المسلحين الإسلاميين على مدينة كونا الفاصلة بين شمال مالي وجنوبه وإيقاف زحفهم على العاصمة باماكو، ولكن فرانسوا هولاند عاد في دولة الإمارات ليحدد هدف التدخل الفرنسي في مالي بأبعد من صد هجوم الإسلاميين إلى “القضاء على الإسلاميين”.
حقيقة لقد وجد فرانسوا هولاند في الحرب الاستباقية والاستباحية في مالي مكسبا سياسيا نادرا، إذ توحدت آراء اليمين واليسار والوسط للترحيب بقراره شن الحرب في مالي وساندت أغلب الدول في أوروبا وأمريكا وإفريقيا قرار الرئيس الفرنسي، ووجد من يقدم له الدعم المالي في دول الخليج العربي وفي مقدمتهم دولة الإمارات العربية المتحدة.
وحتى الجزائر التي رفعت شعار الحل السياسي وجدت نفسها تفتح أجواءها أمام الطائرات الحربية الفرنسية، وتذرعت الدبلوماسية الجزائرية بخطاب ملتبس يقول الشيء وضده فهو يؤيد الحرب ولكنه يتبنى الحل السياسي، ويدعو إلى عدم استبعاد الحل التفاوضي مع تقديم الدعم للتدخل العسكري!
والواضح أن هذه الحرب على مالي ستعود على الجزائر بعواقب وخيمة على المستوى الأمني والاقتصادي والاستراتيجي، فهي تعني بالضرورة – كما قال السيد عبد العزيز رحابي – إدخال الجيش الشعبي الوطني في حرب استنزاف، ومحاصرة الجزائر من طرف الوجود الفرنسي العسكري من كل الجهات تقريبا، وخلق مشكلة اللاجئين على الحدود الجنوبية للجزائر.
ومن الواضح أيضا أن فرنسا تدخلت في مالي ليس من أجل حماية وحدة مالي واستقرار أوضاعها الاقتصادية والسياسية ولكنها تدخلت من أجل حماية نفوذها والإبقاء على سيطرتها على مناجم الذهب واليورانيوم والثروات الباطنية الهائلة في كل منطقة الساحل الإفريقي، ولذلك فإن الحرب الفرنسية على مالي لن تؤد – كما قال السيد دومينيك دوفيليبان، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق – “إلى إنشاء دولة قوية وديمقراطية، بل على العكس إنها تشجع التقسيم، الدول الفاشلة، وقانون القبضة الحديدية للميليشيات المسلحة”.
لقد سارعت فرنسا إلى مساندة حكومة غير شرعية وضعتها في السلطة جماعة انقلابية بقوة السلاح.
ولا يركز الإعلام المساند للتدخل العسكري على المأساة الإنسانية المترتبة على قصف وترويع المدنيين، وإن كانت بعض الصحف الفرنسية قد أشارت، على استحياء، إلى تلك الأعمال الانتقامية التي دفعت بمئات المدنيين الماليين إلى الفرار والنزوح خوفا من انتقام المسيطرين الجدد على المناطق التي ينسحب منها المقاتلون الإسلاميون، كما وقع في مدينة “سيفاري” الواقعة جنوب مدينة “كونا” التي تعرض فيها المدنيون داخل المساجد إلى اعتداءات وحشية من طرف العسكريين الماليين بمجرد انسحاب المقاتلين الإسلاميين منها بعد وصول القوات الفرنسية إليها.
لم يكن باستطاعة صوت الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور إحسان أوغلو أن يعلو على صوت الحرب، ففي الوقت الذي صدر فيه نداؤه إلى التزام الوقف الفوري لإطلاق النار في مالي والعودة إلى مائدة المفاوضات، أشارت مصادر إعلامية إلى قيام مصدر مقرب من الرئاسة البوركينابية بغلق الباب في وجه المفاوضات بقوله: إن المفاوضات بين الحكومة المالية وحركتي أنصار الدين والأزواد، التي كان من المفروض أن تعقد في 21 جانفي الجاري بواغادوغو ” لم تعد حدثا راهنا”.
وهكذا خرجت أوراق الحل من أيادي المسلمين والأفارقة واستأثرت فرنسا بخيار الحرب والسلم في دولة تبعد عن حدودها بأكثر من 4 آلاف كلم.!!
إن الحرب التي تدور في مجال مغلق على الإعلام، ولا تنتقل الأخبار عنها إلا بواسطة المصادر الفرنسية المتحيزة أو الأخبار التضليلية المسربة عمدا في جو من التعتيم والغموض المفروضين على ساحة المعارك، تكون أكبر ضحاياها، كالعادة، هي الحقيقة والحقوق الإنسانية، ورغم ذلك فليس من الصعب أن يدرك المرء بأن فرنسا لن تكون أول دولة تشعل حرب استباقية بأهداف استعمارية، ولكنها لن تكون آخر دولة تعض أصابع الندم على التورط في مثل هذه الحروب التي يعرف الجميع كيف تبدأ ولكن القليل يعرف كيف ستنتهي!