الفكر السياسي في المتن الإصلاحي/أ.عبدالقادر قلاتي
عندما طرح المرجع الشيعي الكبير محمد مهدي شمس الدين مقولة: “ولاية الأمة على نفسها” في معرض نقده لنظرية ولاية الفقيه التي يرتكز عليها النظام الإيراني الحالي، تلقفها منظرو الفكر السياسي عندنا بشيء من الإكبار والإجلال واعتبروها مقولة متقدمة في الفكر السياسي الإسلامي، وسرعان ما أضحت هذه المقولة نظرية جديدة في الفكر السياسي الإسلامي، تتقاذفها الأقلام بالمدح تارة، عند تيارات الإحياء الإسلامي سنة وشيعة، وبالذم أخرى من طرف تيار التقليد عند الشيعة الامامية، وعند تيارات إيديولوجيا الحاكمية، ولم يكلف هؤلاء المفكرون الفكر أنفسهم مؤونة البحث حول هذه المقولة -وغيرها كثير- في التراث الإسلامي قديمه وحديثه، بل سلموا بجديتها وعبقريتها، وأذكر أنني سمعت كلاما تبجيليا من المفكر المصري محمد سليم العوا، وكذلك الباحث السوري جمال باروت، والشيخ الغنوشي وغيرهم كثير. وقد يكون المرجع الشيعي مهدي شمس الدين توصل إلى هذه المقولة نتيجة بحثه في مسائل السياسة والدولة، لكن اللوم كل اللوم على هذه الفئة التي تصدرت للتنظير حول الفكر السياسي الإسلامي، وأعطت فيه أحكاما مطلقة، ليس في هذه المسألة وحسب، بل هناك مسائل كثيرة عولجت فكريا وحسمت معرفيا بهذه الروح الاستعجالية، مما جعل الفكر السياسي الإسلامي، يتوقف عن إبداع مقولات جديدة وحقيقية حول أهم الاشكاليات التي تتعرض مسيرة الأمة نحو إبداع نظريتها في السياسة والحكم.
تذكرت هذا الكلام و أنا أقرأ في بعض تراث شيخ الجزائر، وإمامها الخالد الشيخ عبد الحميد بن باديس، ووجدت هذه المقولة واضحة فيما كتب الإمام، وتبين لي أنها من إبداع الشيخ، أو أنه سبق بها غيره، إلى جانب مقولات أخرى تظهر قيمة ما كتب الشيخ في الشأن السياسي، فلنقرأ ما كتب الشيخ في ولاية الأمة على نفسها، يقول الشيخ: “فلا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة الإسلامية إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل، فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها”.وفي معرض حديثه عن كفاءة الحاكم وصلاحه، وتقدم الخيرية أم الكفاءة، يقول: “…الذي يتولى أمرا من أمور الأمة، هو أكفؤها فيه، لا خيرها في سلوكه.. لذلك قدم الراجح في الكفاءة لا في الخيرية..“، ولنقرأ له أيضا هذا الكلام المتقدم في التنظير الفكري لمسألة القانون والإلزام عند الأمة، يقول: “..لا تحكم الأمة إلا بالقانون الذي رضيته لنفسها وعرفت فيه فائدتها، وما الولاة إلا منفذون لإرادتها، فهي تطيع القانون لأنه قانونها، لا لأنه سلطة أخرى لفرد أو جماعة فرضته عليها، كائنا من كان ذلك الفرد وكائنة من كانت تلك الجماعة. فتشعر أنها حرة في تصرفها.. إذ هذه الحرية والسيادة حق طبيعي وشرعي لها ولكل فرد من أفرادها..”. ثم يأتي إلى أهم مسألة كانت تشغل العقل المسلم في تلك المرحة التاريخية حيث تعرت الأمة الإسلامية سياسيا بعد سقوط الخلافة الإسلامية، يقول الشيخ كلاما يحسده عليه كبار المفكرين والكتاب ممن انشغل بالكتابة في هذا الشأن: “…الخلافة هي المنصب الإسلامي الأعلى الذي يقوم على تنفيذ الشرع و حياطته بواسطة الشورى من أهل الحل والعقد من ذوي العلم والخبرة والنظر، وبالقوة من الجنود والقواد وسائر وسائل الدفاع، وقد أمكن أن يتولى هذا المنصب شخص واحد صدر الإسلام وزمنا بعده على فرقة واضطراب، ثم قضت الضرورة بتعدده في الشرق والغرب، ثم انسلخ عن معناه الأصلي وبقي رمزا ظاهريا تقديسيا ليس من أوضاع الإسلام في شيء…“”…. هذه مقولات انتقيتها من آثار الشيخ، وقرأتها بإعجاب وذهول، وسنعود لها بالكتابة والتحليل في مقالات لاحقة.إن شاء الله.