انهيارنا. / د.عبد الحفيظ بورديم

ما أسرع ما تقلّبت بنا الأيّام، فقد كنّا وكانت لنا أحلام عظام، وها قد صرنا وما لنا إلاّ الأوجاع الجسام. مضى القرن العشرون بفقر الأيادي وعزّة الفؤاد وأقبل الواحد والعشرون بشتات الأحفاد وقبضة الأوغاد. وأبى الآباء أن يكونوا متفرّقين ولكنّنا رضينا أن نكون متخاصمين، وهذا عالمنا العربيّ نهبة كلّ خدّاع وفريسة كلّ طمّاع.
أفنى الاستكبار من قبل دولتنا ولكنّه لم يكسر إرادتنا، وما غلبنا إلاّ بالعسف والنار وما وجده في بعضنا من ذلّة وصغار، وقد أعياه أن يسلب منّا حبّنا لأوطاننا وذودنا عن ديننا. وهو يذكر في القوقاز خيول شاميل الإمام وفي الشام جنود القسّام، وهو لن ينسى استشهاد عمر المختار السنوسي ولن ينسى جهاد الأمير عبد القادر الجزائري.
ولكنّه يعلم منّا أنّنا لم نعد كما كنّا، فأكثرنا أضاع عزّة الوجود، وباع شرف العهود. ويعلم أنّ حكّامنا استلذّوا استعباد الأوطان، ويعلم أنّ ساستنا استحبّوا كرسيّ البرلمان، ويعلم أنّ أحزابنا لم تبن على الإيمان، ويعلم أنّ المجرمين من الأنذال يخطفون صغار الأطفال، ويعلم أنّ النساء فينا خرجن مجاهرات، وأنّ الشباب من بنينا يحسدن الفتيات فنافسوهنّ في تصفيف الشعور ولبس القصير، وأنّ مدارسنا تعلّم الغباء لأطفالنا، وأنّ فقراءنا يأكلون من نفايات قاذوراتنا، وأنّ أرضنا لم تعد تنتج مأكولنا، وأنّ خرابنا أقرب إلينا من وريدنا…
وهم يعلمون أنّ الأمم لا يأتيها خرابها إلاّ إذا فسد حاكموها ومحكموها، وعمّت الفاحشة في بناتها وبنيها. وطغى الأقوياء على الضعفاء، وتشبّهت الرجال بالنساء.
وكلّ ذلك صار فينا، فكيف لا يطمع الاستكبار في الإجهاز علينا، وها قد بدت منهم بوادر إفنائنا ونحن في غفلة ساهون. وها قد بدت منهم نوازع الشرّ ونحن في غفلة عمون، خرّبوا العراق وجعلوا أهله شيعا، ومزّقوا السودان فأحالوه مرتعا، وأحرقوا ليبيا فصيّروها أدمعا، وأغروا بالشام فحوّلوها بلقعا، وإنّ لهم في مالي لمطمعا.
وللاستكبار أن يطمع في ثروتنا، ولكن هل له أن يطمع في مسخنا؟
له أ يطمع في بترولنا، ولكن هل له أن يطمع في تمزيق وحدتنا؟
له أن يطمع في أرضنا، ولكن هل له أن يطمع في تجويعنا؟
له كلّ ذلك إن تركنا قيادنا لسفيهنا، وإن سكتنا عمّا فيه ذلّنا، وإن استبدلنا دنيانا بديننا، وإن ضيّعنا أمّتنا بقبيلتنا.