العدل والإنسان: الرؤية الإسلامية لمسألة الحكم والسياسة /أ.عبدالقادر قلاتي
آيات العدل في القرآن الكريم واضحة الدلالة على مركزية الإنسان في الرؤية الإسلامية لمسألة الحكم والسياسة، ذلك أن العدل هو النقيض الأساس للظلم، والظلم هو النقيض الحقيقي للحرية التي تشكل الضمان الوحيد للفعل الإنساني، فإذا غابت الحرية، غاب الفعل الإنساني، وبالتالي غابت إرادته حتى مع وظيفته الأساسية وهي العبادة التي خلق الإنسان من أجلها{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، لذا فالعدل هو منشأ الحرية، ومن ثم كان الله أعدل العادلين.
إن منشأ الجدل حول مفهوم العدل في فكرنا السياسي والديني؛ هو الغياب الطويل للحرية التي هي النتيجة الطبيعية لممارسة العدل في الفعل السياسي، وفي الفعل الإنساني بوجه عام، ولأن البشرية عرفت قبل مجيء الرسالة الخاتمة، أشكالا هائلة من الظلم والقهر والطغيان، أنساها حقيقة العدل وطبيعته، لأن طبيعة الدول والأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الفترة من تاريخ البشرية، لم تكن تستند إلى منطق العدل، بل كان الاستبداد هو المنطق السائد في كل أنظمة الدنيا، فلم يعرف التاريخ السياسي قبل ظهور الإسلام، دولة عادلة ارتضى الناس حكمها، إلا ما كان سلطة إضافية تابعة للسلطة المركزية، و من طبيعة الدول الاستبدادية صناعة “السلط” الملحقة بها، التي تناط بها وظيفة الدفاع عن السلطة الأم عند أي اهتزاز سياسي قد يلحق بنظام الدولة، وهكذا عاش الناس في ظل هذه الأنظمة الاستبدادية إلى أن جاء الإسلام، الذي قلبت مفاهيمه وتصوراته، كل الأنساق المعرفية التي كانت تشكل مجمل المجالات، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، و الحياة بوجه عام.
لقد جعل الإسلام العدل المقوم الرئيس لحياة الناس، بل الهدف الأسمى لكل الرسالات السماوية فجاء النص القرآني ليرسم هذه الحقيقة عند المتلقي المؤمن بالوحي، حتى يتخلص من رواسب الماضي، فقال تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” [الحديد:25]، وقال أيضا: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ “[النساء:135]، وقال أيضا : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”[المائدة:8]، وليست هذه الآيات الوحيدة في القرآن الكريم التي أظهرت قيمة العدل ومركزيته في الممارسة التعبدية بوجه عام، وفي الشأن السياسي بوجه خاص، بل هناك آيات كثيرة رسمت صورة واضحة في الدلالة كما قلنا على قيمة العدل الذي يشكل الضمانة الوحيدة لتحقيق إنسانية الإنسان؛ الذي فطره المولى سبحانه وتعالى على حب الحرية وبغض الظلم الذي هو نقيض العدل، وهنا تكمن القيمة الحقيقة لنظرية الحكم في التصور الإسلامي، فالإسلام لم ينشأ آليات للفعل السياسي، وإنما أنشأ نظرية سياسية قائمة على معادلة” العدل الإنسان”، فإذا قام الشأن السياسي على معامل العدل، حقق الإنسان حريته وكرامته، وسائر شؤونه، في إطار هذه المعادلة المطلقة بين العدل والإنسان، وثمة شرع الله في مسألة السياسة والحكم.
والله أعلم وأحكم