الانشقـاق في العـراق…
كان لابد للمخدَّرين في العراق من أن يفيقوا ذات يوم، فيستعيدوا وعيهم بالواقع المرير، وسوء المصير.
وكان لابد من أن ينهض المخدَّرون من غفوة السّكر، فيبحثوا عن صحوة الفكر.
فالتخدير الذي حُقن به عقل المواطن في العراق ذو تركيب متعدد المنابع، بعضه صنع في مخابر دولية، بمواصفات استعمارية معينة، وبعضه الآخر ذو خصوصيات إيديولوجية إقليمية خاصة، وكلها تلتقي على أهداف مدنسة، الغرض منها إفراغ الإنسان العراقي من شحنته، وتغيير سحنته، والتفريق بين شيعته، وسنته، والتشكيك في حقيقة انتمائه، وملته.
في ضوء هذه الأعراض الفكرية والإيديولوجية، ينبغي قراءة ما يجري من هدير جماهيري تبعث به الملايين الشاردة في شوارع المدن العراقية، رافعة شعار “وُلّيت فَظلمت، وحَكمت فأفسدت، وآن الأوان لأن ترحل، فقد أطلت”.
إن هؤلاء الملايين من أبناء العراق الثائرين، الهادرين، المزمجرين، قد سئموا حياة التخدير، وفُتات الشعير، وذل الحمير. فعندما تعرف أن مليون شهيد عراقي في عهد الاحتلال الأمريكي قد قضوا، ومليون شهيد في عهد نوري المالكي، وأكثر من سبعمائة ألف أسير، هم في عداد المفقودين، وعشرة آلاف امرأة سجينة، الكثير منهن أنجبن سفاحا في السجن، من زبانية السجون، عندما تدرك هذا، تعلم لماذا طفح الكيل بالعراقيين، فحطموا القيود، وتحدوا الحواجز والسدود، وخرجوا يطالبون بحقهم في الوجود.
لقد مورست على العراقيين كل أنواع الإذلال، والتعذيب، والإعدام، والاغتصاب، وكل أنواع التشتيت، والطائفية، والعصبية، والعرقية، ومن يعرف الطبيعة العراقية، يعلم أن العراقي يتميز بالأنفة، والإباء، والشجاعة،والفداء، فهو يقتل في سبيل الشرف، ويتشبث بالقدوة من سيرة السلف، فكيف له أن يقبل بحياة الخسف والفُتات والعلَف؟
فمن يستطلع تاريخ العراق، يعلم أن هذا الشعب الأبي لم يذعن لغاصب، ولم يحن جبينه لمحتل، ولذلك فقد نثر أشلاء أبنائه على شوارع ودروب شتى مناطق العراق، وسقى بدمائه الطاهرة كل أرض العراق، دفاعا عن حريتها، ومقاومةً لاحتلال جبالها وسهولها ووديانها.
إن ما يحدث اليوم من حراك جماهيري في أرض الرافدين، لنذير بزلزلة الأرض من تحت الغاصبين للأرض، المغتصبين للعرض، وعلى هؤلاء أن يحسنوا الاستماع إلى صوت الجماهير الغاضبة، فيعيدوا مقاليد الحكم إلى أبنائه، وإلا فستسوقهم الجموع غدا إلى قبر العدم.
ويخطئ من يعتقد أن ما يحدث اليوم في العراق هو ربيع عَرَبي، ذلك أن الربيع العربي، لم يسبقه احتلال أجنبي، ولم يصاحبه سطو على الخيرات والمقدرات بتمكين من المحتل. إن ما يحدث –اليوم- في العراق أشد وأقوى من كل ربيع عربي، بل إنه شتاء برعوده، وعواصفه، وبروده، وإنه سوف يقتلع الأشجار البالية، والأدمغة الخالية، والنفوس العميلة الموالية، كي يعود العراق إلى وحدته المنشودة، وحريته المفقودة، وكرامته الموؤودة.
يجب أن يفرج عن المعتقلين والمعتقلات، وأن يمكن أبناء العراق، مما يزخر به من أنواع الخيرات، وأن يحاكم العابثون بمصيره، والمتسلطون على رقابه، والبائعون لشعب العراق وترابه، وبكلمة واحدة، يجب أن يفرج عن كل العراق من سجنه الكبير، وأنها للمهمة التي تكفلت بها جماهير الشعب العراقي من سنة وشيعة معا،
وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
فصبرا صبرا، يا آل العراق، فإن حراككم قد أينع غرسه، وأثمر درسه، وقَرُب عُرسه، وويل للمتقاعسين عن ثورة الزاحفين، وعلى حد قول الشاعر الكبير نزار قباني:
كلّ رب أجنبي صُنعه سوف يلقى حتفه سوف يحطم