فلسفة ابن باديس التربوية بين الخصوصية الثقافية وعالمية القيم الإنسانية /الأستاذ محمد عجوط
إن أول ماينبغي أن نذكر هو الشئ الذي عنه بحثنا ههنا والغرض الذي إليه قصدنا. فأما الشئ الذي عنه بحثنا فهو الفكر التربوي الباديسي وبيان أساسه الفلسفي، وغرضنا الكشف عن استبطان ذلك المشروع التربوي لرؤية فكرية للجدلية بين الخصوصي والعالمي. ذلك لأنه إذا كانت العولمة أمرا واقعا اليوم ، وكان لزاما على الكثير من المجتمعات السياسية إعادة النظر في مسلماتها التربوية والثقافية والأخلاقية بقصد التكيف والمشاركة في إنتاج الثقافة الإنسانية ، وكان من الواجب على رجال التربية اليوم مراعاة القيم الجديدة التي فرضتها الحياة الراهنة من جهة.
ولأنه من جهة ثانية إذ كانت الشعوب تختلف بمقوماتها ومميزاتها ، ولا بقاء لأمة إلا ببقاء مقوماتها ومميزاتها ، وكانت تلك المقومات ضاربة في تاريخ الأمة وماضيها. ومن جهة ثالثة ، إذا كان عبد الحميد بن باديس في مجال التربية يبرز مربيا ماهرا ، وكان من الثابت أنه « هو الذي غرس البذرة الأولى في التربة الجزائرية قبل الحرب العالمية الأولى في (…) الاتجاه الذي سارت فيه الجزائر(…) ابتداء من الثلاثينات ، ورعاها بجهده وعمله المتواصل في ميدان حركة التربية والتعليم »(1)، وكان حل مشكلات الحاضر واستشراف المستقبل إنما يتأسس في جانب منه على مُعطيات الموروث الثقافي للمجتمع ؛ اتضح إذن أنه لامناص لنا اليوم من استنطاق الإرث الباديسي واستقراء فلسفته التربوية بغية إيجاد حل لمشكلة العولمة بما تحمله من دلالات الوحدة والشمولية وطمس حدود المجتمعات السياسية وخصوصياتها الثقافية ، ومسألة التربية ذات الصلة الوثيقة برؤية المُنظر لها للحياة واختلاف أهدافها باختلاف المجتمعات الإنسانية ، إذ الواقع أن «التربية هي الجانب العملي لكل فلسفة ، فهي الوسيلة الفعالة لتحقيق المُثل العليا التي يؤمن بها الفيلسوف ، ومن هنا كانت العلاقة بين الفلسفة والتربية علاقة تلازم » (2).
لا جرم تستبطن هذه المداخلة فرضيات لا نريد لها أن تبقى رهينة المُضمر اللامنطوق ، بل يتعين منذ البداية الارتقاء بها إلى مستوى المنطوق الصريح وهي:
1- إن ابن باديس يمتلك مشروعا تربويا متكاملا ، له منابعه الفلسفية ، وأهدافه ، ومناهجه ووسائله.
2- إن الفكر التربوي الباديسي فكر أصيل صادر عن مفكر واع بمتطلبات التغيير يجمع بين مقتضيات الأصالة ومُتطلبات المعاصرة.
3- إن ذلك الفكر التربوي يمنح الأولوية للمحدود على اللامحدود ، ويجعل ما هو عالمي متوقفا على ما هو خصوصي دون انغلاق على الذات.
تلك هي الفرضيات التي تريغ هذه المداخلة إلى تأييدها ، والتي تحدد محاور الورقة التي سنتقدم بها إلى هذا الملتقى.
أولا/ مشروع ابن باديس التربوي:
إن عالم مقال هذه المداخلة هو الفلسفة ؛ لذلك لن نسهب في الحديث عن المشروع التربوي الباديسي من الناحية التقنية ، فذلك أمر كفانا إياه الدكتور عمار الطالبي في مقدمته الهامة لكتاب ( ابن باديس حياته وآثاره)، والمرحوم الأستاذ عبد الرحمان شيبان في تقديمه لآثار الإمام عبد الحميد ابن باديس في أجزائها الأربعة ، والدكتور رابح تركي في مؤلفات كثيرة ، والدكتور محمود قاسم في كتابه( الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية) (03) ، إلى غير ذلك من المقالات في مختلف الدوريات والمواقع لباحثين أخرين . ولكن لا مندوحة لنا ، رغم ذلك ، من الإشارة إلى ما من شأنه أن يخدم غرضنا المُعلن عنه سلفا ، خصوصا إذا علمنا أننا أولا إزاء دعوى مفادها أن الفكر الباديسي مجرد نجم في فلك التيار السلفي ، بما تحمله اللفظة الأخيرة من دلالات الانغلاق والتقليد وتقييد الفكر ، مثلما أشاعه ذوو التعميمات التي لا تعدو كونها نتاج استقراء ناقص لأقوال الآخر ، وبتزكية من خزعبلات المنتسبين إلى السلفية دون معرفة أصلية أو علم أصيل..وثانيا لأننا أمام اعتراض يعتبر تصريح ابن باديس الذي يرسم فيه منابع وأهداف مشروعه التربوي عندما أعلن بأنه يعيش للإسلام والجزائر ﺒ «أن هذا ضيق في النظر ، وتعصب للنفس ، وقصور في العمل ، وتقصير في النفع ، فليس الإسلام وحده دينا للبشرية ، ولا الجزائر وحدها وطن لإنسان » ( 04) . وسنرى أن فيما يلي ما يفند ذينك الزعمين.
1/ منابع المشروع التربوي الباديسي الفلسفية:
إن القول بوجود منابع فلسفية لمشروع ابن باديس التربوي ، يلزم عنه الزعم بأن لابن باديس فلسفة ، وهذا الذي نعتقده للمبررات التالية:
أ/ وجود بنية تحتية حُبلى بالمشكلات التي تستدعي إعمال الفكر وإيجاد الحلول ؛ فبعد سنوات من الاحتلال الفرنسي أُلحقت الجزائر بفرنسا إثر صدور مرسوم 22 جويلية 1834 ، وأُبعد الشعب الجزائري عن المشاركة في حكم بلاده ، وعرف تعداد السكان الجزائريين نقصا فادحا بفعل حروب الإبادة والأوبئة والمجاعات ، وتدهورت أوضاعهم الاقتصادية بسبب مصادرة الأراضي ، وتفشت البطالة وتفتت الأسرة الجزائرية ، والأدهى من ذلك تخطيط الاستعمار الفرنسي لمحو الشخصية الجزائرية بتجميد استعمال اللغة الوطنية وتشويه التاريخ الوطني ومحاولة اقتلاع الجزائر من واقع الانتماء الإسلامي العربي.
تأسيسا على ذلك إن الفلسفة التي ننسبها إلى ابن باديس تمثل البنية الفوقية التي فرضها ذلك الواقع ، والمشروع التربوي الباديسي المُؤسس عليه يستوحي أهدافه ومراميه من حاجات الناس الراهنة ، ولهذا فهو يتطلع إلى المحافظة على الشخصية الجزائرية بأبعادها: الإسلام ، العروبة ، الامازيغية . ومقاومة حركات التبشير وسياسة التنصير، وتحرير الفكر من البدع والخرافات ، والنهوض بالجزائر إلى مصاف الشعوب الراقية ، ومقاومة سياسة الإدماج والتجنيس ، والمحافظة على الوحدة القومية للشعب الجزائري كما يصرح صاحبه بوضوح.
ب/ نحن اليوم ، خلافا للتصور النسقي الكلاسيكي للفلسفة ، نعتبر أي خطاب حول مشكلة جزئية من مشاكل الحياة أو مسألة متخصصة من أبواب المعرفة قولا فلسفيا، ونعد توما الاكويني وديكارت واسبنوزا وليبنتس وكيركجارد وغيرهم فلاسفة رغم الأصول اللاهوتية الواضحة لأفكارهم ، فحري بنا اعتبار الخطاب الباديسي قولا فلسفيا لا يرى صاحبه ثمة تعارضا بين العقل والنقل ، ويحدد لكليهما علم مقاله.
ج/ وبالفعل، فالقانون الأساسي لجمعية العلماء المسلمين عندما يعتبر في مادته الثانية الإسلام هو دين البشرية التي لا تسعد إلا به، يبرر الأخذ بتلك المرجعية بالقول أن الإسلام « يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير»،. وفي وصاياه إلى المسلم الجزائري يقول ابن باديس : « حافظ على عقلك فهو النور الإلهي الذي مُنحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك» (05) .
د/ وخلافا للأشاعرة حيث العقلُ لا يوجب تحسينا أو تقبيحا، والحسن هو ما حسنه الشرع والقبيح على قياسه ، يرى ابن باديس أن العقل هو الحكم الفصل في معرفة الحسن والقبح ، و« أن ما أمرهم الله به هو الحسن المحبوب وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض ، فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح والفطرة السليمة ، وأنه تعالى لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن» (06)، وهذا موقف المعتزلة والقائلين بموضوعية القيم ومطلقيتها ، ومن ثم عالميتها وثباتها كأفلاطون وكانط ولوسين وماكس شيلر ونيكولا هارتمان .
ﻫ/ وإذا كان الذين يتطلعون اليوم إلى محاربة رواد الفضاء بالعصي والسيوف ، ومجابهة آليات العولمة باختلاق قصص الخوارق ، ومواجهة مد الشوملة بالتعاويذ كحال القبوريين أيام ابن باديس يرفضون الارتباط الضروري بين العلل والمعلولات ؛ فإن ابن باديس يقول عند تفسيره قوله تعالى ﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا﴾ ( الإسراء 20): « إن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء ، وأن من تمسك بسبب ، بلغ بإذن الله إلى مسببه سواء أكان برا أم فاجرا ، مؤمنا أو كافرا (…) وهذا مُشاهد في تاريخ المسلمين قديما وحديثا فقد تقدموا حتى سادوا العالم ورفعوا علم المدنية الحق بالعلوم والصنائع لما أخذوا بأسبابها (…) وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب ». (07) ذلك نزر قليل من فلسفة ابن باديس ، مما يسمح المقام بذكره ، وبين أن مجال التفلسف الباديسي هو عالم القيم حيث للرجل مواقف سياسية وتحليلات تربوية وتنظير أخلاقية، ولعله من نافلة القول التذكير بأن رأي الفيلسوف في القيم إنما هو تابع لنظرته في الوجود وطبيعة الإنسان ، ولابن باديس ثمة آراء هي بحاجة إلى البحث من المختصين في الفلسفة.
2/ موضوع التربية، وسائلها ومجالها:
يقول ابن باديس في وصيته للمسلم الجزائري:« كن عصريا في فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك» (08). ولنجعل نحن من هذا المقتبس مبدءا نعود إليه عند الخلاف في الحديث عن فكر ابن باديس , ومقدمة نستنبط منها مايلي:
أ/ إن التربية عند ابن باديس لا تقتصر على المدرسة وحدها، نعم يولي الرجل للمدرسة والعلم أهمية كبرى ويقرر أن « العلم قبل العمل ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال» (09) ، ولكنه يؤكد من جانب آخر أن « للجمعية نيات أخرى تنوي أن تقوم بها في المستقبل إن شاء الله ، تنوي أن تبعث البعثات العلمية إلى الخارج وتسعى جهدها في تحقيق ما ينص عليه قانونها الأساسي من تأسيس المصانع»(10)، ويصرح: « إننا نريد للمسلمين ( = الجزائريين) أن يبلغوا في المعارف ، والفلاحة ، والتجارة ، والصناعة إلى مستوى إخوانهم الفرنساويين»(11).
ب/ يلزم عن ذلك أن مجال التربية عنده يتسع ليشمل شخصية الفرد ككل متكامل تبعا لرأيه في طبيعة الإنسان محور التربية ، والعملية التربوية تستغرق الطفل والمدرسة والمجتمع. وبالفعل فالتربية من حيث هي أداة لنهضة الأمة ينبغي أن تعتني بالفكر « هذه القوة التي كان بها الإنسان سيد العالم، وسيطر على عناصر المادة وأنواع الأحياء»(12)، والغرائز إذ « ليس الإنسان مطبوعا على الخير فقط، ولا على الشر فقط (…) ونهضة هذه الغرائز بمقاومة ما فيه من أصول الشر، وإنماء ما فيه من أصول الخير»(13)، والعقائد التي « كثيرا ما تكون متلقاة بطريق التسليم والتقليد، وكثيرا ما تنطوي حينئذ على باطل وفساد»(14) ، والأعمال « وهي مبنية على ماعنده من فكر وغرائز وعقائد، فإذا كانت هذه مستقيمة كانت أعماله مستقيمة»(15).
ج/ بناء على ما سلف ، سلك ابن باديس كل وسيلة متاحة يومئذ لبلوغ مراميه ؛ أدرك خطورة وسائل الإعلام والصحافة باعتبارها وسيلة للتوعية، فأصدر جريدة المنتقد ، والشريعة ، والسنة ، والصراط ، والبصائر ، والشهاب. وأنشأ المدارس والمعاهد كالجامع الأخضر ، ومدرسة التربية والتعليم ، ومعهد ابن باديس في قسنطينة ، ودار الحديث في تلمسان. وقام بالوعظ والإرشاد بقصد الاتصال مباشرة مع الجماهير.
د/ فيما يتعلق بالمضامين أو المحتوى الذي يشكل مواد النشاط التعليمي كوجه من وجوه العملية التربوية ، يرى ابن باديس أن المواد التي ينبغي إدراجها ضمن المنهاج التعليمي تتمثل في:
– دراسة القرآن والحديث وما يتصل بهما من علوم.
– دراسة العقائد والعلوم الشرعية.
– دراسة اللغة العربية.
– دراسة المواد الاجتماعية كالأخلاق والتاريخ والجغرافيا.
– دراسة المواد التي تنمي القدرة على الاستدلال كالمنطق والحساب والهندسة والفلك وعلوم الطبيعة.
وينبغي أن نلاحظ هنا:
الملاحظة الأولى: إن إدراج المواد الثلاث الأولى نابع من موقف ابن باديس من مسألة الهوية الوطنية ، ولنسمي ذلك من جهة أخرى حتمية تربوية في مواجهة سياسة فرنسا ذات الأربع زوايا: التفقير ، التجهيل ، التنصير ، والفرنسة. ولأن النظام التربوي في كل مجتمع هو مرآة ثقافة هذا المجتمع.
الملاحظة الثانية: لا يعني البتة ذلك الثبت للمحتوى التعليمي أن صاحبه يهمل اللغات الأجنبية ، ولا تعني مقاومته للفرنسة رفض الفرنسية كلغة صانعة للحضارة ، فابن باديس بعدما يعتبر اللغة العربية والفرنسية لغتان متآخيتان في القطر الجزائري وضروريتان لسعادة القطر ، يقول: في العدد 47 من مجلة الشهاب الصادرة في 16 أوت 1926:« إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوروبا ، فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر تلك العقول الناضجة وتكتنه دخائل الأحوال الجارية ، أن تكون عالمة بلغات أوروبا ، وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية ، فإنها تبقى في عزلة عن هذا العالم ، مطروحة في صحراء الجهل والنسيان من الأمم المتقدمة التي تتقدم في هذه الحياة بسرعة لم يسبق لها مثيل»(16).
الملاحظة الثالثة: وإذا اعتبرنا المواد الدراسية الثلاث الأولى من العلوم النقلية، والمواد الثانية علوما عقلية؛ ثبت ماذكرناه سلفا عند الحديث عن فلسفة ابن باديس من جهة ، ومن جهة أخرى تأكد أنه لا يحصر العلم فيما هو شرعي ، وليس أدل وأبلغ في التعبير عن هذه الدلالة من قوله موصيا المسلم الجزائري: « احذر كل متعيلم يزهدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية ودعا إليها القرآن بالآيات الصريحة ، وخدم علماء الإسلام بالتحسين والاستنباط ما عُرف منها في عهد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم علماء أوروبا اليوم»(17).
ثانيا/ مشروع ابن باديس التربوي وأولوية الخصوصي المحدود:
لم يكن القصد مما سلف عرضُ المشروع التربوي الباديسي كغاية في ذاته مثلما أومأنا ، وإنما استنباط رأي له من مسألة الأصالة والمعاصرة يُعتبرُ في نظرنا تمهيدا ضروريا لولوج قضية الموقف من مشكلة العولمة.
1/التربية والمحافظة على الشخصية القومية:
يلاحظ ابن باديس أن المجتمعات تتباين بمقوماتها ، وبالتالي تتنوع ثقافاتها ، بمعنى أنه لا وجود لثقافة إنسانية، وإنما هناك ثقافات إنسانية على حد قول (كلود ليفي ستراوس) ، ولا جرم يُخول لنا ذلك القول في المقابل بأنه لا وجود لمجتمع لإنساني واحد ، وإنما هناك مجتمعات إنسانية ، إذ الشعوب تختلف « بمقوماتها ومميزاتها كما تختلف الأفراد، ولا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته كالشأن في الأفراد ، فالجنسية القومية هي مجموع تلك المقومات وتلك المميزات. وهذه المقومات والمميزات هي اللغة (…) والعقيدة (…) والذكريات التاريخية (…) والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات»( 18). مثلما يقرر ابن باديس.
بناء على ذلك وجدنا المشروع التربوي الباديسي يولي أهمية كبرى لدراسة العقيدة واللغة والتاريخ ، وكان عملُ الرجل من أجل المحافظة على الشخصية القومية من أهم أهداف حركته التربوية ، ذلك لأنه لا يمكن للمجتمع أن يحافظ عل بقائه الروحي المعنوي إلا عن طريق المحافظة على مقوماته وتراثه الثقافي ، تماما مثلما يحافظ على بقائه البيولوجي المادي بواسطة التناسل .
2/ التربية وملائمة روح العصر:
ولكن لا تعني المحافظة على الشخصية القومية التمسك بالتراث القديم بحسناته وسيئاته بدعوى أنه أساس الأصالة، ولئن كان ابن باديس قد قام « بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح»(19)؛ فإنه يقرر أن الثقافة الجديدة لا تنافي الإسلام الصحيح ، ولا تتعارض مع مقومات الجنسية القومية كما يسميها ، من هنا يخاطب المسلم الجزائري بالقول: « حافظ على حياتك ، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك ، وإذا أردت الحياة لهذا كله، فكن ابن وقتك ، تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل»(20).
وهكذا يخلص إلى رأي يتجاوز دعاة الأصالة دون الالتفات إلى المعاصرة وأصحاب الرؤية الحداثية على حساب الماضي، واضعا شروط الأخذ بالأمرين، مؤكدا « إنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله ، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي ، وأصلح شأنه في الحال ، ومد يده لبناء المستقبل ، يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه ، مُعرضا عما لا حاجة له به ، أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مُقتضى ذوقه ومصلحته»(21)
3/ من الخصوصية الثقافية إلى عالمية القيم الإنسانية:
ومثلما قضية القديم أو الأصالة والحديث أو التقدمية والمُفاضلة بينهما شغلت بال المفكرين ، يبدو أن قضية العولمة هي الأخرى قد قسمت الرأي منها إلى شطرين. وسواء أكانت هناك عولمة حسنة وأخرى سيئة، أم كانت كلها حسنة أو كلها سيئة ؛ فإننا نذهب إلى التمييز بين العولمة والعالمية ، وذلك على أساس أن الأولى ماهي إلا شكل بلغه تطور الاقتصاد الرأسمالي بعد التطور المثير للتقنيات الجديدة للإعلام والاتصال ، وعقب انهيار الاقتصاد الاشتراكي المُوجه وسقوط جدار برلين. والحقيقة التي تتراءى لنا اليوم إثر مايُدعى ربيعا عربيا أن العولمة إنما هي التقاء أفكار اقتصادية رأسمالية متوحشة وفوضوية سياسية لا تختلف عن تلك التي نادى بها الروسي ميكائيل باكونين (1814/1876)، إذ أن مصير الدولة في ظل العولمة هو الزوال والاضمحلال أمام السلطة المطلقة للسوق، وبالأحرى أمام جشع أقطاب العولمة من البنكيين والصناعيين الذين تتضمن إيديولوجيتهم الحرب كما يحمل الغيم المطر.وكلتاهما – الراسماية المتوحشة والفوضوية – لا تعير القيم الأخلاقية أدنى اهتمام. أما العالمية فهي على النقيض تجمع الناس في مستوى القيم والمثل الإنسانية ، كما تطلع إليه كانط في مشروعه نحو سلام دائم.
هذا، ويبدو أن ابن باديس يأخذ بفكرة العالمية المُشار إليها، وليس بفكرة العالمية كمذهب من يقدمون حب الإنسانية على حب الوطن كالرواقيين الذين يسمون أنفسهم مواطنين عالميين ( Citoyens du monde).
وبالفعل، فهو يعلن « أن خدمة الإنسانية في جميع شعوبها والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها ، هو مانقصد ونرمي إليه ، ونعمل على تربيتنا وتربية من إلينا عليه»(22)، وهو بهذا يجعل من أهداف التربية، فضلا عما تمت الإشارة إليه فيما يتعلق بما هو خصوصي وطني، خدمة الإنسانية ونشر محبتها بين مريديه ، ويحث المسلم الجزائري على نبذ التعصب الجنسي الممقوت ، والحذر من التوحش ، ويوصي بالإحسان والأخوة مع كل جنس من أجناس البشر ، وانتهاج سياسة الصدق والصراحة القائمة والإخلاص القائمة على الحب والعمل والتعاون(23).
ولكن إذا كان ابن باديس يجعل خدمة الإنسانية ومحبتها هدفا ، وفي المقابل يجعل من غايات العملية التربوية إعداد الفرد الجزائري للحياة عقليا واجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا ، وكذا النهوض بالوطن إلى مستوى التجمعات البشرية الراقية، والمحافظة على الشخصية الوطنية ، وإعداد نشء يأخذ للحياة سلاحها ويخوض الخطوب ولا يهب ؛ فإنه في الحقيقة يجعل الأولوية والأولية للفئة الثانية من المرامي ، أي تلك الأهداف التي تخدم مجتمعة الوطن ، وهذا دون الانغلاق على الذات أو إنكار الهدف الإنساني العام ، إذ أن خدمة الوطن ومحبته تُعتبر خدمة ومحبة للإنسانية.
ذلك لأن تلك « الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السهل التوصل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة ، فوجب التفكير في الوسائل المُوصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النفع»(24)، مثلما يعلل ابن باديس تقديم الخصوصي المحدود على العالمي اللامحدود ، وبذلك فهو عندما قرر خدمة الوطن والإسلام الذاتي، وليس الإسلام الوراثي الذي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير والمبني على الجمود والتقليد ؛ فلأن في خدمة الإسلام الذي يدعو إلى الأخوة الإنسانية بين جميع البشر كما يدعو إلى الأخوة الإسلامية ، ويسوي في الكرامة والحقوق بين جميع الأجناس والألوان ، خدمة غير مباشرة للإنسانية.
وهذا الذي يذهبُ إليه ابن باديس ذهب إليه حكيم الصين (كونفوشيوس )، الذي أعطى للتربية الخُلقية عن طريق التعليم مكانة رفيعة، وذلك لما قرر أنّه إذا أردنا نشر خير الفضائل بين البشر؛ وجب فعل ذلك على مستوى الوطن أولا(25). وكذلك الفيلسوف الألماني (كانط) الذي نادى بالعالمية في كتابه ( نحو سلام دائم، محاولة فلسفية ) سنة 1595، وفيه قرر أن كل أمة في العالم لها الحق في تقرير المصير، وأنه لا يجوز لأيّة دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة أخرى.
النتائج:إلى هنا يمكن أن نستنتج أن ابن باديس يمتلك فعلا مشروعا تربويا متكاملا، وإذا كان من العبث أن نعيب على السمكة عدم القدرة على العيش خارج الماء؛ فلا يُعقلُ أن نحكم على الأفكار خارج سياقها وإطارها التاريخي، إذ المفكر لا يخرج إلى الوجود كما تنبت الفطريات، وإنما هو نتاج عصره وعصارة مجتمعه.
ورغم ذلك، تؤكد لنا القراءة السالفة أن الفكر التربوي الباديسي فكر أصيل صادر عن مفكر واع بمتطلبات التغيير، مدرك للتقدم الحاصل في الحاضر بسرعة لم يسبق لها مثيل، وعليه فالأمم التي لا تواكب التطورات الراهنة في صياغة مشاريعها التربوية بها لا يتعارض ومقوماتها تبقى رهينة الجهل والنسيان.
وابن باديس فيلسوف يتجه وجهة عقلانية تؤمن بالارتباط الضروري بين العلل والمعلولات ، وتعتقد أن للعقل القدرة على إدراك القيم الكامنة بصورة موضوعية في الأفعال والأقوال ، وترى أن الإنسان ليس خيّرا بطبعه كما يزعم (روسو)، ولا شريرا بجبلّته كما يذهب إليه (هوبز) و(ميكيافيلي) ، وإنما هو يحمل الاستعداد لفعل الخير والشر معا كما قرر (كانط).
وفلسفة ابن باديس التي يتأسس عليها مشروعُه التربوي تنطلق من الواقع ومتطلباته ، ومثلما صاغ صاحبها النظريات سعى جهده في العمل لتطبيق المشروع وبلوغ المرامي والغايات المُتوخاة ، بعيدا عن الحلول المُغرقة في التجريد ، ولذلك أتت أُكلها وأينعت ثمارُها.
وموقف ابن باديس في مسألة الصلة بين الخصوصي والعالمي يستبطن منطقا يتجاوز قوانين التداخل مثلما نص عليها المنطق القديم، حيث مايصدق على الكل يصدق على جميع الأجزاء بالضرورة ، ذلك لأن المنطق المعاصر يقرر فساد هذا القانون مادامت القضية الكلية تفترض الوجود ، بمعنى أنها تنص على أنه إذا افترضنا كذا سواء كان موجودا أو غير موجود فإنه كذا ، بينما الجزئية تقرر الوجود ، أي أنها تنص على أنه يوجد على الأقلّ كذا وهو يتصف بكذا ، ومنه لا يجوز الانتقال من الفرض إلى التقرير الوجودي.
يتضح أن موقف ابن باديس الذي يمنح الأولوية والأولية للمحدود ، ويجعل ماهو عالمي متوقفا على ماهو خصوصي صحيح من وجهة نظر المنطق المعاصر صوريا ، بل وهو صادق ماديا للمثال الباديسي الذي سنختم به مداخلتنا باللغة الطبيعية ، وذلك حتّى وإن قُوبل برفض هؤلاء الذين لا يستطيعون تصور الجزء مُساويا للكل في مجال من مجالات الرياضيات المعاصرة.
وتأسيسا على ما سلف كله، يتأكد لدينا أن ابن باديس سلفي على منواله الجزائري ، فهو بعدما يقدم خدمة الجزائر، ويؤكد أن وراء ذلك الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا، يقول:« وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى (…) ثم الوطن العربي والإسلامي ، ثم وطن الإنسانية العام. ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذا كله إلا إذا خدمنا الجزائر . وما مثلنا في وطننا الخاص – وكل ذي وطن خاص – إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة ، فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيّع بيته فهو لما سواه أضيعُ»(26).
وبعدُ، لا نزعم البتة أننا أحطنا علما بفلسفة ابن باديس التربوية ، ولا أن هذه المداخلة استغرقت الموضوع والغرض اللذين أعلنا عنهما بادئ الأمر ، وجل ماطمحنا إليه أن تثير صدى لدى طلبتنا الباحثين في مجال فلسفة التربية ، بل وكل الباحثين في عالم مقال الفلسفة لاستقصاء مناحي الفكر الفلسفي عند ابن باديس وغيره من مفكري المغرب العربي المغمورين في هذا المجال.
الهوامش:
* أستاذ مساعد للمنطق الصوري، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية-جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف
(1): تركي رابح، الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط 4، 1984، ص: 370.
(2): المرجع نفسه، ص: 245.
(3) أنظر:
أ- عبد الحميد بن باديس حياته وآثاره، إعداد د/ عمار الطالبي، دار اليقظة العربية، دمشق، 1968، (4 أجزاء).
ب- عبد الحميد بن باديس، آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر،(4أجزاء).
ج- د. تركي رابح، المرجع السابق / الشيخ عبد الحميد بن باديس باعث النهضة الإسلامية العربية في الجزائر، دار العلوم، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1982. / الشيخ عبد الحميد بن باديس شيخ المربين وشيخ المصلحين في الجزائر، سلسلة كتب الشباب، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989.
د- د. محمود قاسم، الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، دار المعارف، القاهرة،1968.
(4): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ط 1، 1985، الجزء الرابع، ص: 110.
(5): المصدر نفسه، ص: 42.
(6): عبد الحميد بن باديس، مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير،مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ط 1، 1982، ص: 143.
(7): المصدر نفسه، ص: 76.
(8):آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 4 ، ص: 44.
(9): المصدر نفسه، ص: 212.
(10): نقلا عن: د. تركي رابح، الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر، ص: 242.
(11): المرجع نفسه، ص: 252.
(12): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 4، ص: 47.
(13): المرجع نفسه، ص:48.
(14): المرجع نفسه، ص:48.
(15): المرجع نفسه، ص:49.
(16): المرجع نفسه، ص:40.
(17): المرجع نفسه، ص:42.
(18): المرجع نفسه، ص:17.
(19): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ط 1، 1984، الجزء الثالث، ص: 253.
(20): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 4 ، ص: 43.
(21): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 3، ص: 9.
(22): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 4 ، ص: 110.
(23): المصدر نفسه، ص، 44.
(24): المصدر نفسه، ص: 110.
(25):أنظر: محمد سليمان حسن، التيارات الفلسفية الشرقية، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ص: 66.
(26): آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 4 ، ص: 113.