ديكتـاتـورية الأقليـة.؟! /أ.عبدالحميد عبدوس
رغم حجم الشغب السياسي الذي مارسته القوى المتكتلة في جبهة الإنقاذ الوطني، والانفلات الإعلامي الذي طبع أداء الكثير من الصحف والقنوات الفضائية، التي مارست عملية تضليل حقيقية لتأليب الشعب المصري ضد الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي والإسلاميين، وتشويه الدستور، بطبع وتوزيع الآلاف من النسخ المشوهة منه، وتقديم قراءات مغلوطة عنه في وسائل الإعلام، بل وإصدار تعليمات بعدم نشر إعلانات مدفوعة الأجر الداعية للتصويت ب “نعم” على الدستور في الصحف المؤيدة للكنيسة والفلول، فإن غالبية الناخبين وبنسبة تقارب الثلثين قالت وافق على الدستور المصري الجديد، ومع ذلك خرج الدكتور محمد البرادعي منسق جبهة الإنقاذ المعارضة على الرأي العام المصري بفتوى “أمريكية” سجلها في حسابه الشخصي على موقع “تويتر” تنص على أن: “مخالفة الدستور في بعض مواده مثل حرية الرأي والعقيدة للقواعد الآمرة في القانون الدولي تجعله باطلا مهما استفتي عليه”!
فالدكتور البرادعي يعتبر من خلال هذا الرأي بأن اصطفاف ملايين المصريين والمصريات لساعات طويلة أمام مكاتب الاقتراع للتعبير عن آرائهم في مشروع الدستور المصري، هو مجرد هباء منثور ولا قيمة لرأي الشعب المصري وإرادته الوطنية أمام “القواعد الآمرة في القانون الدولي”.!!
ويلتقي رأي الدكتور محمد البرادعي مع رأي مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السيدة نافي بيلاي، التي طالبت بجعل المعاهدات الدولية أسمى من الدستور والقانون المصريين، والسبب في هذا الطلب هو ما يفسره الخبير القانوني المصري الدكتور عبد الله الأشعل الذي يقول: “طالبت السيدة بيلاي صراحة مصر بأن تجعل المعاهدات الدولية أسمى من الدستور والقانون، وبإلغاء النص في المادة 145 على عدم إبرام مصر لمعاهدات تناقض الدستور، والترجمة العملية لهذا النص -المعمول به بشكل تلقائي دون نصوص في النظم القانونية في جميع دول العالم- هي أن مصر تتحفظ عند إبرام المعاهدات على كل ما يخالف النظام العام والشريعة الإسلامية، ما دامت القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية تبطل لعدم دستوريتها”. وهنا مربط الفرس، فقد أبدت السيدة بيلاي أسفها على إصرار الدستور الجديد على جعل الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع المصري.
السيدة نافي بيلاي ليست نموذجا معزولا في غواية الإقدام على التدخل في الشؤون الداخلية لمصر، فقد ذهبت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي إلى أبعد من ذلك عندما صرحت بأن الدستور الجديد للبلاد: “تمت صياغته بالكامل من طرف الإسلاميين في تجاهل تام لمصالح العلمانيين والمسيحيين”.
أما السيناتور جون ماكين المرشح الجمهوري السابق للانتخابات الرئاسية الأمريكية في سنة 2008، فقد قال بأن ما يجري في مصر “ليس هو ما تتوقعه الولايات المتحدة ولا دافعو الضرائب الأمريكيون، وعلينا أن نربط دولاراتنا بمدى التقدم نحو الديمقراطية في مصر”.
كل هذه الوقاحة الأمريكية، ومحاولة فرض الوصاية من طرف مفوضة حقوق الإنسان على الدولة المصرية المستقلة هي التي تشحن بطارية الغرور والعناد في ائتلاف المعارضة المصرية، التي تتكون من أشتات الليبراليين، و بقايا الاشتراكيين، والفلول الموالين لمبارك من المترفين والمستفيدين من فساد النظام القديم، كل هذه التشكيلة غير المتجانسة التي يتزعمها في الظاهر محمد البرادعي، وعمرو موسى، وحمدين صباحي، والسيد البدوي ،ونجيب ساوريس،وزعماء الكنائس المسيحية لا تجمعهم سوى الرغبة في إسقاط الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي أبدى قدرا من المرونة السياسية والانفتاح على المعارضة، والرغبة في إنقاذ الوحدة الوطنية، والتواضع في مهامه الدستورية، ولم يستنكف عن التراجع عن الإعلان الدستوري الذي أصدره في 22 نوفمبر 2012، بعدما أثار موجة معارضة في الداخل والخارج، وأدى إلى سلسلة من الاستقالات من بين فريق المستشارين الرئاسيين، فكان بذلك يجسد مقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الذي كتب إلى أحد عماله ينصحه: “لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع عنه، فالحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”.
ولكن محاولات الرئيس مرسي للمعارضة جعلها تتمادى في الرفض والعناد والمكابرة، ورفضت كل دعوات الحوار الموجهة إليها، ولم تقتصر معارضة الرئيس المصري المنتخب، على رفض الدستور المصادق عليه من طرف الأغلبية ، ثم الدعوة إلى إسقاطه ،وحشد المسيرات والدعوة إلى الاعتصامات والتحريض على العنف اللفظي والمادي، الذي أراق الدماء وأزهق الأرواح وخرب الممتلكات ووصل إلى حد محاصرة بيوت الله ، ومحاولة الاعتداء على إمام مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية وخطيبه الداعية المعروف الشيخ أحمد المحلاوي، الذي تحدى نظام أنور السادات، ومن بعده حسني مبارك، وتعرض بسبب ذلك إلى التنكيل والسجن والمنع من الخطابة، بل أن معارضة الرئيس المصري المنتخب وقراراته تعدت ذلك إلى أشكال التعري ونزع الثياب، وقص الشعر، وحمل الكفن، والتهديد اللفظي، من طرف بعض “هوانم” مصر المحروسة، وهذا ما جعل بعض المصريين يطالبون الرئيس بالتخلي عن “حيائه” الزائد وتطبيق القانون على المنفلتين والمنفلتات، والمستهترين والمستهترات، فالنحب العلمانية والقيادات الكنسية أصبحت تزداد تشددا كلما ازداد الرئيس لينا وتنازلا.وهي تسعى إلى فرض ديكتاتورية الأقلية وتشجيع تمرد القضاة على سلطة الرئيس المنتخب وتصف أغلبية الشعب بالجهل والأمية وعدم الفهم !
فبينما رأت- على سبيل المثال- صحيفة “نيويورك تايمز” التي تعودت كتابة مقالات نارية ضد مرسي، أن خطابه بعد طهور نتيجة الاستفتاء على الدستور، ودعوته أطياف المعارضة إلى الحوار “عكس لهجة تصالحية”، قالت جبهة الإنقاذ بأن خطاب الرئيس مرسي “جاء مخيبا للآمال”!
وبينما ترى الصحيفة الأمريكية بأن “الأوضاع في مصر تجعل المصريين أمام خيارين، إما مواصلة التنافر فيما بينهم ورؤية اقتصادهم الوطني ينهار، أو أن يصطفوا لبناء مستقبل أفضل لبلادهم”.
دعت حركة 6 أفريل الممثلة في ائتلاف جبهة الإنقاذ الوطني إلى مليونية في ميدان التحرير يوم 25 جانفي المقبل، بمناسبة الذكرى الثانية لثورة 25 جانفي 2011، مما يعني الإصرار على الإبقاء على أجواء الاستقطاب السياسي والتوتر الأمني وعدم الاستقرار الاجتماعي ، وإعطاء مؤشرات سلبية للمستثمرين والسياح الأجانب لدفع الوضع الاقتصادي المصري نحو هاوية الإفلاس!
والمؤسف أن تنتقل الصورة المشوهة عن عملية الاستفتاء على الدستور المصري إلى تصريحات بعض المثقفين الجزائريين في وسائل الإعلام الوطنية، على غرار ما صرح به أحد أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، بكون عملية الاستفتاء على الدستور في مصر كانت “قليلة المصداقية” وأن الهيئة التأسيسية التي قامت بصياغة الدستور لم تكن ممثلة لكل أطياف المجتمع، وأن الموافقين على الدستور كان عددهم متواضعا بالمقارنة مع العدد الإجمالي للهيئة الناخبة.
وهذا الكلام يقفز على كون السبب الحقيقي وراء عدم اشتمال الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور لكل أطياف المجتمع، هو الانسحاب المريب لممثلي التيار العلماني وممثلي الكنائس المسيحية في مصر من لجنة صياغة الدستور بعد مشاركتهم الفعلية في اقتراح وكتابة أغلب مواد الدستور، وكما أن الإشارة إلى النسبة المتواضعة للموافقين على الدستور مقارنة بالعدد الإجمالي لهيئة الناخبين، ويتناسى أن هذا الأمر حدث في أغلب الانتخابات والاستفتاءات التي عرفتها مختلف دول العالم، ولعل البعض يتذكر النسبة الحقيقية التي حاز عليها الاستفتاء على دستور 1996،الذي قاطعته أغلب التشكيلات السياسية الفاعلة، والنسبة الحقيقية للناخبين على المجالس المحلية في انتخابات 2007، و2012 مقارنة بإجمالي الهيئة الناخبة.
لكل ذلك يبدو الأمر وكأنه يتعلق بقدرة جوقة التضليل الإعلامي المصرية على التأثير في آراء بعض مثقفينا وإعلاميينا، رغم التجربة المريرة للجزائريين الذين لدغوا من قبل من طرف أمثال عمرو أديب وزوجته لميس الحديدي، ووائل الأبراشي، ورمضان خيري، ومنى الشاذلي، ومصطفى بكري، وغيرهم من أساطين التلفيق والبهتان والشتم والتحريض ضد الجزائر وشعبها ورياضييها، بمناسبة المقابلة الكروية بين الجزائر ومصر في سنة 2009 بملعب أم درمان بالسودان، إنها الوجوه نفسها والأباطيل ذاتها التي تنهش اليوم سمعة الرئيس مرسي والإسلاميين هي التي استهدفت -في غالبيتها- سابقا سمعة الجزائر وشعبها وقيادتها وتطاولت على تاريخها وشهدائها.وإن لم تستح فاصنع ماشئت.