إن الحقيقة هي أن “الجاهلية” وصف لواقع يتميز به الناس – قلّ عددهم أو كثر – في أي زمان أو مكان في مجال العقيدة، والعبادة، والتشريع، والأخلاق الفردية والجماعية.
ففي مجال العقيدة يتميز المجتمع “الجاهلي” بالإلحاد، والشرك. وقد قرأنا عن مجتمعات “مسلمة” ورأيناها وهي تقول بألسنتها، وتعمل أعمالا هي أقرب إلى الشرك منها إلى الإيمان. وقد فصّل القول في ذلك فيلسوف الحركة الإصلاحية في الجزائر الشيخ مبارك الميلي في كتابه القيم الذي سماه “رسالة الشرك ومظاهره”، ومن قبله أشارت الآية الكريمة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: “..وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون”.
وفي مجال العبادة يتميز المجتمع “الجاهلي” بعبادة غير الله – عز وجل – وحتى في المجتمعات التي تسمى نفسها وتصفها بـ “الإسلامية” ترى كثيرا من أفرادها عاكفين على أضرحة، مقدمين لها القرابين، يزعمون أن أصحاب تلك الأضرحة يقربونهم إلى الله زلفى.. وجهلوا أن الله – عز وجل – أقرب إليهم من حبل الوريد..
وفي مجال التشريع فإن المجتمع “الجاهلي” هو من يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويبغي حكم الجاهلية، ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ولو زعم أنه “آمن” بما أنزل على محمد – عليه الصلاة والسلام – فقد قرأنا أن بعض المؤسسات عندنا – ونحن دولة “إسلامية” كما ينص دستورها – ترفض أن ترتدي العاملات فيها اللباس الشرعي، بينما تسمح الشرطة الإنجليزية لمن تريد من العاملات المسلمات فيها بارتداء اللباس الشرعي.. كما قرأنا أن بعض الحقوقيين عندنا يدعون إلى نسخ حكم الإسلام في قتل القاتل، وحكم الإسلام في السراق، وحكمه في الزناة.. فكثر فينا القَتلة.. والزناة، والسرّاق.. لأنهم يعلمون أن أحكام الجاهلية رؤوفة بالمجرمين الذين ينتهكون الأعراض، ويروعون الآمنين، ويسرقون الأموال..
ويتميز المجتمع “الجاهلي” في ميدان الأخلاق بانتشار الرذائل، ومحاربة الفضائل، وإشاعة الفواحش وتشجيع أهلها من ممثلين وممثلات، ومغنين ومغنيات.. إن الدليل على أن “الجاهلية” ليست مرحلة زمنية مضت وانتهت، هو كلمة سيدنا جعفر ابن أبي طالب أمام النجاشي ملك الحبشة، التي جادل بها عن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، وأرسلت قريش وفدا لاسترجاعهم إلى مكة، قال سيدنا جعفر مخاطبا الملك الحبشي: “أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. “.
إن هذه الأوصاف القبيحة التي وصف بها جعفر ابن أبي طالب المجتمع المكي في وقته هي التي أدّت إلى إطلاق وصف “الجاهلية” عليه.. وبالتالي فإن كل مجتمع فشت فيه هذه الصفات، وانتشرت فيه هذه الأخلاق هو مجتمع “جاهلي” ولو بلغ أهله من “التقدم” المادي ما بلغوا.. وبالتالي فإن “الجاهلية” جاهليات..
لقد كتب الأستاذ محمد قطب في منتصف الستينيات من القرن الماضي كتابا جعل له عنوانا هزّ به الغافلين، وأيقظ به السادرين في الغي، وعلّم به المغرورين الذين ظنوا أنهم “قادرون” على كل شيء لعلمهم بعض ظواهر الكون، هذا العنوان اللافت للأنظار، المنبّه للأذهان هو: “جاهلية القرن العشرين”.
إن الجاهليات السابقة جاهليات بسيطة، ساذجة، فعمر بن الخطاب كان في جاهليته يصنع “إلها” من التمر حتى إذا مسّه الجوع راغ عليه فأكله، ولكن جاهلية القرنين العشرين والواحد والعشرين جاهلية مركبة، متعالمة، ولكن “علمها” هو ما سماه أحد أولى النهى “العلم الجاهل”.
لقد أنتجت جاهلية القرنين العشرين والواحد والعشرين “ولدا” مشئوما قبيحا سمّته “الزواج المثلي” وأنتجت “ولدا” كريها سمته “الأم العازبة”..أليست الخنازير أفضل من هذه “الكائنات” التي تزعم “التقدم” وتدعي “الحضارة”؟
إن جاهليتنا الآن أسوأ وأقذر من جاهلية العرب التي كانت لا تخلو من قيم نبيلة كالمروءة، والنجدة، والكرم.. ألم يكن عنترة بن شداد الجاهلي الذي يقول:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي** حتى يواري جارتي مأواها
ألم يكن خيرا من كثير من “مسلمي” اليوم الذين يستبيحون أعراض النساء، مسلمات وغير مسلمات؟
وهل إخراج بناتنا في كامل زينتهن وتبرجهن لتقبيل”ضيفنا” فرانسوا هولندا والترحيب به إلا من جاهليتنا “العالمة”؟
إذا كان العرب الجاهليون سيقولون – جدالا عن أنفسهم -: ما كنا ندري ما الكتاب ولا الإيمان، فماذا نقول نحن المدّعين الإسلام، المرتكبين أعظم الآثام، ونحن كما قال أحمد شوقي:
بأيمانهم نوران: ذِكر وسُنة فما بالهم في حالك الظلمات؟
إن الجاهليين أشرف وأكثر صونا لأعراضهم من هؤلاء “المسلمين” “القردة” الذين يُعرّون أزواجهم وبناتهم ويعرضون أجسادهن أمام الناس في شواطي البحار؟
إن الجاهليين لأشرف وأكرم من هؤلاء “المسلمين” التافهين، الحقرين الذين يشترون الكراسي.. بشراء الذمم واستنزال الهمم، ثم يُراءون الناس في السيارات الفارهة، والملابس الغالية..
لقد كان العرب “الجاهليون” أحرص الناس على تقديس الأشهر الحُرم، فلا يسيلون فيها قطرة دم حرام، ولكن “المسلمين الجاهليين” لا يراعون حرمة هذه الأشهر التي ما قررها إلا رب العالمين، الذين يزعمون الإيمان به..
إن جاهلية الذي قال -ظلما- لأخيه: “لأقتلنّك” أهون من جاهلية “مسلمي” القرنين العشرين والواحد والعشرين الذين يقتلون بعضهم في دقائق بالمئات من دون أن يدروا فيم قَتلوا أو قُتلوا.
إن العربي الجاهلي الذي سرق دراهم معدودة من شخص واحد هو أقل شرا، وأهون جرما من “المسلم الجاهلي” الذي يسرق الملايير من مال الأمة، وبوسائل علمية، ويهربها إلى الخارج.. ألا ما أقذر، وأخبث، وأنتن، وأرذل هؤلاء “المسلمين” الجاهليين الذين يتسببون في تشويه صورة الإسلام الجميلة، ويصدون بأخلاقهم الجاهلية الناس عن الإسلام، ويحسبون أنفسهم “شيئا مذكورا”.
الشروق أونلاين/الأربعاء 2 جانفي 2013 ميلادي الموافق لـ 19 صفر 1434 هجري