ما لن يقوله الرئيس «هولاند» في الجزائر!/ بقلم الأستاذ عبد الحميد عبدوس
رغم أن مصالح قصر «الإليزي» تعتبر زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للجزائر «حدثا تاريخيا»، فمن المرجح أن تكون الحقيقة التاريخية هي الضحية الأولى لهذه الزيارة، لأن أعمال الترميم والتزيين والتجديد للواجهات والشوارع والعمارات التي يشملها مسار زيارة هولاند لن يكون بمقدورها أن تخفي ذلك الشرخ العميق الذي يفصل بين رؤية البلدين إلى ماض مثقل بالمظالم والآلام، وتعنت الإنكار من الجانب الفرنسي لجرائم غير قابلة للنسيان، رغماإدعاء رئيس اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان فاروق قسنطيني من الجانب الجزائري، أن جرائم فرنسا المقترفة خلال احتلالها للجزائر طوال قرن وثلث القرن، قد سقطت بالتقادم!
وكذلك ادعاء وزير الخارجية الفرنسي الأسبق بيرنارد كوشنير من الجانب الفرنسي بأن رحيل جيل الثورة من المجاهدين كفيل بتطبيع العلاقات بين الجزائر وفرنسا وإسقاط مطلب تقديم الاعتذار.
يأتي الرئيس الفرنسي إلى الجزائر حاملا حقيبة من الوعود للجزائريين، ومعها مواقف فرنسية غير قابلة للتنازل أو التفاوض، منها – على سبيل المثال- الموقف الفرنسي من قضية حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره الذي تعرقله فرنسا بكل ثقلها السياسي والدبلوماسي، وقضية الإلحاح على تسريع التدخل العسكري في مالي، وقطع الطريق أمام الحل السياسي التفاوضي الذي تدعو إليه الجزائر وعدد من القوى في مالي والدول الإفريقية، حفاظا على الوحدة الوطنية لمالي وإبعاد شبح التدخل الأجنبي في منطقة الساحل الإفريقي.
أمام مطلب الجزائر لمعالجة جراح الذاكرة التاريخية ، يتعلل الجانب الفرنسي دائما بأن العلاقة بين الجزائر وفرنسا يجب أن تتحرر من إرث الماضي، وتتطلع إلى المستقبل، ولكن الماضي ما فتئ يلقي بنفسه بلا استئذان في ملف العلاقات الجزائرية الفرنسية، إذ يكفي إلقاء نظرة على تشكيلة الوفد المرافق للرئيس الفرنسي في زيارته للجزائر، لنجد أن أحد أبناء الحركى الذي يشغل حاليا منصب وزير منتدب مكلف بقدماء المحاربين، وهي الوزارة التي من بين أكبر اختصاصاتها ،إعادة الاعتبار لفئة الحركى، وتحميل مجاهدي جبهة التحرير الوطني مسؤولية اقتراف جرائم دموية ضد الحركى أثناء حرب التحرير وبعد خروج الجيش الفرنسي من الجزائر !
فهل يمكن للجزائريين أن يمحوا من ذاكرتهم جرائم الحركى الذين خانوا وطنهم، وانضموا إلى صفوف المحتل لإبقاء السيطرة الفرنسية إلى الأبد على الجزائر، حتى ولو تطلّب ذلك منهم أن يقتلوا ويغتصبوا ويحرقوا ويعذبوا أبناء وبنات جنسهم في الأصل، والدين، وأرض المولد؟!
هل يمكن أن تأخذ زيارة عضو الوفد الرئاسي الفرنسي ، «قادر عريف» ابن الحركي الجزائري الأصل، الذي اختار فرنسا موطنا وانتماءً، نفس المعنى عند الجزائريين من المجاهدين، وأبناء الشهداء، وأرامل الشهداء، الذي قد تأخذه زيارته لألمانيا أو أية دولة أخرى في العالم على سبيل المثال؟!.
أليس وجود مثل هذا الشخص بصفته الرمزية والسياسية مؤشرا على نية فرنسية في انتزاع تنازلات ومزايا لفئة الحركى، الذين يبغضهم الجزائريون أكثر مما يبغضون قدامى الجنود الفرنسيين في قوات الاحتلال، الذين كانوا يقاتلون مخيرين أو مجبرين لفرض جبروت وطنهم الأم (فرنسا) على العالم؟!
كيف يمكن إلغاء ضغط الماضي من مشهد العلاقة بين الجزائر وفرنسا وهذا وزير الدفاع الفرنسي الأسبق جيرارد لونغي الذي مازال يحتفظ بكل حقده، وعنصريته، وقناعاته الاستعمارية، رغم مرور نصف قرن على سقوط وهم «الجزائر الفرنسية»، والذي بمجرد سماعه بمطلب مسؤول جزائري للحصول على اعتذار من فرنسا، حتى أخذته العزّة بالإثم، وقام بأحط وأفحش رد فعل يمكن أن يصدر من سفيه وحاقد موتور؟!
إن إقامة علاقات مثمرة ومتميزة وقائمة على التقدير والاحترام، والتطلع بتفاؤل إلى مستقبل مشرق بين الجزائر فرنسا، كان ومازال مطلبا جزائريا، ولكن ذلك لا يتم إلا عن طريق تخليص الماضي من عقده وآلامه، والذاكرة الجماعية من كوابيسها وجراحها، وهذا هو المسلك الذي لجأت إليه فرنسا مع جارتها ألمانيا، لقد قامت المصالحة التاريخية بين بلدين تحاربا وتباغضا، بفضل اعتراف المحتل النازي بجرائمه، وتقديم الاعتذار لفرنسا المعتدى عليها، وتعويض الضحايا بشكل عادل، وتجريم الماضي الاحتلالي النازي، بدل تمجيده في المناهج الدراسية والنصب التذكارية كما فعلت فرنسا بتمجيد ماضيها الاحتلالي للجزائر!
إن أجواء التهليل والتفخيم التي تضفيها السلطات الجزائرية وأغلب وسائل الإعلام على زيارة الرئيس الفرنسي، تعكس علاقة التبعية التي تربط الطرف الجزائري بالطرف الفرنسي، وكانت ميشال أليو ماري وزيرة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، قد شبهت في أحد تصريحاتها العلاقة بين الجزائر وفرنسا بالعلاقة بين الزوجين، التي تتراوح بين التفاهم والتناغم تارة، والخصام والتباعد تارة أخرى. ولكن الأقرب إلى الصحة أن هذه العلاقة التي تلعب فيها العاطفة دورا محوريا، تقوم على حب من طرف واحد، ورغم أن فرنسا هو المورد الأول للجزائر، إلا أن المغرب تظل هي الوجهة الأولى لاستثمارات القطاع الخاص الفرنسي في إفريقيا، ولذلك فقد حرصت فرنسا على إيفاد وفد هام من رجال الأعمال إلى المغرب لاستكشاف الفرص الجديدة لتكثيف الاستثمار الفرنسي في المملكة المغربية، ولم يتردد رئيس الحكومة الفرنسية عن القول بأن زيارة الرئيس فرانسوا هولاند للجزائر لن تؤثر في علاقات الشراكة المميزة بين فرنسا والمغرب، وقد يعني هذا أن فرنسا تعرف مع من تتاجر وتبحث عنده عن أسواق جديدة لسلعها، وتدعيم شركاتها المشرفة على الإفلاس، وتعرف مع من تستثمر لخلق فرص عمل وتدعيم حركية التنمية الاقتصادية.
إن ما يهم فرنسا في الجزائر هو بالدرجة الأولى استمرار هيمنتها الثقافية واللغوية والأسواق التجارية لبضائعها، وقد لا يكون من قبيل الصدفة أن تصدر وزارة العدل قبيل زيارة هولاند للجزائر يومي 19 و20 ديسمبر 2012 تعليمة تلغي إجبارية ترجمة الوثائق إلى اللغة العربية.
ولعل حرص الرئيس الفرنسي على التحاور مع طلبة جزائريين من جامعة أبو بكر بلقايد بتلمسان، يهدف إلى طمأنة الفرنسيين على أن اللغة الفرنسية ما زالت بخير في الجزائر، بل إنها في نمو وانتشار مستمر في أوساط النخبة الجامعية التي يبرز من بين صفوفها قادة المستقبل، ومن المفارقة أن يأتي هذا اللقاء الجامعي مع الرئيس الفرنسي بعد احتفال العالم باليوم العالمي للغة العربية، التي أصبحت تتقدم على اللغة الفرنسية في مجال الاستخدام على شبكة الإنترنت.ولكن الفرنسية ما زالت في الجزائر لغة العلم والتكنولوجيا والبحث العالي والتميز الاجتماعي!
إن من أهم محطات زيارة الرئيس الفرنسي فراسوا هولاند للجزائر هي خطابه أمام أعضاء البرلمان من نواب الشعب الجزائري الذين طالب عدد معتبر منهم في سنة 2010 بضرورة إصدار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر ردا على القانون الصادر من البرلمان الفرنسي في سنة 2005 لتمجيد الماضي الاستعماري الفرنسي ولكن سيكون من المستبعد جدا أن يسمع نواب الشعب الجزائري كلمة اعتذار أو اعتراف بالذنب من فم الرئيس الفرنسي، ففرنسا تبقى بسبب غرورها الاستعماري متأخرة دائما عن فهم حركة التاريخ، لقد ظلت فرنسا الرسمية قرابة أربعة عقود بعد استقلال الجزائر وهي تنكر حتى مجرد وقوع حرب في الجزائر، وكان يجب انتظار شهر أكتوبر من سنة 1999 حتى يعترف البرلمان الفرنسي بصفة رسمية ب «حرب الجزائر» التي كانت تسمى «أحداث الجزائر» في التداول الرسمي!
وكان يجب انتظار أفريل من سنة 2008 حتى يعترف السفير الفرنسي في الجزائر برنارد باجولي بان أحداث 8 ماي كانت 1945 مجزرة، وأشار إلى مسؤولية السلطات الفرنسية في تلك الفترة «في انفلات جنون القتل الذي خلف آلاف الضحايا الأبرياء غالبتهم من الجزائريين».
وكذلك كان علينا أن ننتظر يوم 17 أكتوبر 2012 حتى يعترف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بمسؤولية فرنسا عن الجرائم المرتكبة في حق المتظاهرين السلميين من الجزائريين، الذين خرجوا في 17 أكتوبر 1961 للاحتجاج على قمع حقوقهم ومصادرة حرية وطنهم من طرف النظام الاستعماري الفرنسي.
وكان يجب انتظار 10 نوفمبر 2012 حتى يقر البرلمان الفرنسي اعتماد يوم 19 مارس كيوم وطني لضحايا حرب الجزائر، وهو يصادف الذكرى الخمسين لوقف إطلاق النار بين جيش التحرير الوطني وجيش الاحتلال الفرنسي في 19 مارس 1962.
فكل هذه الخطوات الصغيرة على درب الحقيقة التاريخية لم تحظ بالاعتراف الفرنسي إلا بعد مرور عدة عقود من الزمن على وقوعها، والسؤال المطروح هو كم سيتطلب من الوقت حتى تبرز قيادة فرنسية تملك من حس المسؤولية التاريخية، ونقاء الضمير، والنزاهة الأخلاقية، ما يجعلها تعترف بجرائم الاحتلال الفرنسي في حق الجزائريين، وتفتح صفحة جديدة في علاقة البلدين، ومستقبل الشعبين.
لقد قال وزير الخارجية الأسبق في عهد الرئيس جاك شيراك، السيد دومينيك دوفيليبان، أن المصالحة بين فرنسا والجزائر هي مفتاح العلاقة لسياسة عربية جديدة لفرنسا، داعيا فرنسا أن تتحمل مسؤولية تاريخها حتى وإن كان مؤلما.
ولعل المثل الفرنسي الذي يقول: «أن يأتي متأخرا أحسن من ألا يأتي أبدا»، هو خيط الأمل الذي يبقي الباب مفتوحاً أمام إمكانية إصلاح ما أفسدته سنوات الإنكار والتعنت والتعالي على الحق.