ديمقراطيون أم حرورائيون/ د.عبد الحفيظ بورديم
منحت العربية للعقل انسجامه، حين وضعت للكلام انتظامه، فدلّت ألفاظه على معانيه، وأشارت رموزه إلى خوافيه، فاتفق الناس على واضح المفاهيم، واطمأنّوا إلى المنطق السليم، فإن نشب بين بعضهم شنآن الخصام، احتكموا إلى قواعد النظام، والأصل الملزم حين الضرورة: وجوبُ التسليم بما تمليه الشورى.
قال محمد(صلى الله عليه وسلم) وقد علموه النبيّ أشيروا عليّ، وقال خليفته (رضي الله عنه) وُلّيت عليكم ولست بخيركم، وقال أمير المؤمنين عمر (رضي الله عنه) أعينوني وقوّموني، ولمّا نبتت نابتة الاقتتال قال الخليفة عثمان (رضي الله عنه) لن أعطيكم سربالي، ولمّا فُتِنتْ حروراء بأهلها قال الإمام عليّ (رضي الله عنه) لا تجادلوها فقد فُتِنَتْ بجهلها.
وكان يجب أن نعيد للعقل انسجامه فنعيد للكلام انتظامه، ولكن غلبتنا طائفة جديدة ادّعت أنّها الرشيدة، وزعموا منهاج الديمقراطية هدية الغرب للإنسانية، فلمّا سألناهم عن فحواها، قالوا أن تُحكمَ الشعوبُ برضاها، وأن ترضى الأقلية بما تراه الأغلبية، وضربوا لنا أمثلة بفرنسا الجمهورية، وأمريكا الفيدرالية، وبريطانيا البرلمانية، وجعلوها فارقا بين الحرية والاستبداد، وميزا بين الصلاح والفساد.
نحن أعلم منهم بأصولها، ألم تنشأ عند فلاسفة اليونان مقولاتها؟ وهم الذين جعلوا الناس طبقات يعدّونها: حكماء يقومون بأمرها، وجند يحمون حصونها، وعبيد ينجزون خسيس أعمالها. ألم تكن عند الرومان تطبيقاتها؟ وهم الذين أقاموا برلمانها، وما استأثر به إلاّ كبراؤها، وحرم منه ضعفاؤها، وصارت للدّسيسة مجالسها، ولبئس الحاكم حاكمها يوليوس سفيهها ونيرون محرقها.
ولكنّنا صدّقنا بالديمقراطيين الجدد وظننّاهم تخلّصوا من قديم العقد، فقلنا تعالوا إلى كلمة الصواب فنحتكم إلى صناديق الانتخاب، وفي كلّ مرّة كانوا يُغلبُون فإذا بهم كالثيران ينطحون، ويخرجون على العالمين بقبيح الفعال وينشرون في السامعين بذيء الأقوال. فمرّة يقولون أخطأ الشعب، ومرّة يقولون نصرهم الرّعب. ولقد أقالوا في فلسطين حكومة حماس، وفي مصر يضيّقون على اختيار الناس. لو صدقوا الأفكار لهنّأوا الشعب وما اختار، ولكنّهم انقلبوا مثل الأعراب على إرادة الانتخاب، فزلّوا من مقامهم وسقطوا من صياصيهم. وكذلك يفعلون في كلّ الديار، إمّا أن يحكموا أو ينقضوا كلّ قرار.
الآن علم الديمقراطيون العربُ أنّهم إن تركوا الاختيار حرّا غُلِبُوا، لأنّهم مثل أهل حروراء نابتة سوء في حديقة غنّاء. وكما أفنى الزمن أولئك الأولين سيفني هؤلاء الآخرين، لأنهم خاصموا عقل الإنسان، وهدموا سنن العمران. ويومئذ سيعلمون أنّهم وضعوا لفظا غير سليم لأمر جلل عظيم، ويومئذ سيعلمون أن باطلهم إلى إزهاق، وأنّ شمس الحقّ في إشراق.