نكوص وطني، أم إشكالية نهوض ديمقراطي؟!/ بقلم الأستاذ عبد الحميد عبدوس
يبدو أن ثمن الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي سيكون مكلفا، وطريقه مملوء بالعقبات والمطبات، والصراعات المناورات، فبعد رحلة إسقاط الديكتاتوريات أصبح حلفاء الأمس من المعتصمين في الساحات، والمشاركين في المسيرات والمظاهرات ضد النظام القديم، يواجهون بعضهم بعضا بالشعارات والحجارة والهراوات، وأحيانا بالخناجر والطلقات!
لقد كانت ليلة العنف الدامي والفوضى الجنونية التي عاشها محيط القصر الرئاسي بالقاهرة، من ليلة الأربعاء إلى الخميس في الأسبوع الماضي،من جراء اشتباك الحشود المؤيدة للرئيس المصري الدكتور محمد مرسي، والمعارضين له ولقراراته الأخيرة بمثابة كابوس لكل المعجبين بثورة 25 جانفي، وقدرتها على إعادة مصر إلى دورها القومي و مركزها القيادي في العالم العربي.
فمنذ أن أصدر الرئيس المصري محمد مرسي في 22 نوفمبر الماضي الإعلان الدستوري لتحصين المؤسسات المنتخبة من “تسونامي” قرارات المحكمة الدستورية، وتصاعد ردود الفعل ضده من طرف المعارضة والقوى الثورية، وحتى فلول النظام السابق التي تكتلت بشكل مريب في جبهة الإنقاذ الوطني، أصبح واضحا أن الشق أخذ يتسع ويتعمق بين الطبقة السياسية في مصر، والخلاف يتعقد بين السلطة والمعارضة، والأخطر من ذلك بدأ يثير كوامن العنف في المجتمع.
وأسوأ ما في الأمر أن يتحول العناد، واللجوء إلى الانقسام ومنطق الصدام، والابتعاد عن التوافق إلى سيد الموقف، فالمعارضة رفضت الدخول في الحوار إلا بعد الاستجابة لشروطها، والسلطة تمسكت بقراراتها الانفرادية التي أزمت الأمور، وفتحت على نفسها صندوق باندورا الذي تخرج منه شرور الفتنة.
وحتى نائب الرئيس المصري المستشار محمود مكي، وهو أحد رموز القضاء المستقل في مصر، لم يخف معارضته للإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي ، رغم قناعته بأن الهدف من الإعلان كان الحرص على استقلالية القضاء، وإبعاده عن الحياة السياسية.
ولكن حتى ولو كان الإعلان الدستوري صادرا عن نية طيبة، وقصد شريف، وهدف وطني، فإن تمسك الرئيس محمد مرسي به وضعه في عين إعصار سياسي، وأعطي الفرصة للمغامرين والمتآمرين والخاسرين في الانتخابات البرلمانية و الرئاسية ، للعودة إلى واجهة الحياة السياسية، والظهور بمظهر المدافعين عن الديمقراطية، وسيادة القانون،وكرامة الشعب، واستقلال القضاء، وهم لم يتورعوا عن استخدام خطاب التحريض والشحن العاطفي لحشود جعلتها حدة الاستقطاب السياسي والانفلات الإعلامي، مهيأة للوقوع في مزالق العنف، وتقويض الاستقرار الوطني والانسجام الاجتماعي.
لقد تعودت الفئة العلمانية المسيطرة على وسائل الإعلام، ومصادر المال، أن تتهم الإسلاميين باستخدام العنف، ورفض الحوار، ولكن الواقع يؤكد أن هذه القوى العلمانية هي التي لجأت إلى استخدام صراع الشوارع، والتحريض على إهانة الرئيس المنتخب، ومحاصرة قصره الرئاسي، وحتى منزله في مدينة الشرقية، ومحاولة رشقه بالحجارة.
وعندما يتصدر الدكتور محمد البرادعي المنسق العام لجبهة الإنقاذ الوطني صفوف المعارضين للرئيس مرسي، ويصرح بأعلى صوته في ميدان التحرير أمام جموع المعتصمين، بأن المعارضة ستنتقل إلى الشرعية الثورية بعد سقوط الشرعية الدستورية، رغم أن مفكرا علمانيا وكاتبا كبيرا مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل يقول بان الأنظمة المنتخبة تسقط بالجرائم وليس بالأخطاء، يتساءل المرء بأسف أين كانت الروح الثورية للدكتور محمد البرادعي، الذي سمح للأمريكان عندما كان على رأس الوكالة الدولية للطاقة النووية، باستخدام الوكالة كأداة من أدوات الحرب على العراق! –حسب قول الدكتور يسري أبو شادي الخبير الدولي السابق في وكالة الطاقة الذرية- وعندما يلتقي الدكتور محمد البرادعي في دعوته للخارج لمقاطعة نظام الرئيس محمد مرسي، وفرض عقوبات عليه مع دعوة رئيس اتحاد المنظمات القبطية بأوروبا، الذي دعا المجتمع الدولي لمساندة المتظاهرين ضد الرئيس المصري، وطلب من جميع المصريين بالخارج إلى تنظيم مظاهرات أمام السفارات المصرية حتى إسقاط الرئيس.
وعندما يذهب الدكتور البرادعي، رئيس حزب الدستور، إلى حد توجيه الدعوة لبقية قوى المعارضة إلى عدم المشاركة في الحوار الذي دعا إليه الرئيس مرسي، بقوله: “أناشد القوى الوطنية عدم المشاركة في الحوار”، قاصدا على الارجح زعماء سياسيين معارضين أمثال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح،رئيس حزب مصر القوية والمرشح الرئاسي السابق،والدكتور أبوالعلا ماضي رئيس حزب الوسط،والدكتور أيمن ر رئيس حزب غد الثورة، الذين تفاعلوا إيجابيا مع دعوة الرئيس محمد مرسي للقوى السياسية والشبابية، وشخصيات القضاء لحضور حوار شامل حول المواد الخلافية في الإعلان الدستوري، وفهم الدكتور أيمن نور أن الدعوة للحوار تعني إسقاط الشروط المسبقة لجميع الأطراف، ولكن هذا الفهم لم يشاركه فيه بقية زعماء جبهة الإنقاذ الوطني، الذين رفضوا الاستجابة لدعوة الرئيس المصري.
وهكذا تتجه الأمور نحو المزيد من التصعيد والانسداد، فعندما يتم رفض الدعوة إلى الحوار والاحتكام بدلا عن ذلك إلى منطق المواجهة وتهييج الجماهير، ويتبارى مثقفو مصر وإعلاميوها وشيوخها في جو من الانفلات والعناد، إلى توفير الغطاء الفكري والديني للعنف السياسي، يتحول الشارع إلى برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت.
وعندما يتهم بعض رموز النخبة الإعلامية المصرية مثل عبد الحليم قنديل، وإبراهيم عيسى، على قناة تلفزيونية ملايين المصريين من جماعة الإخوان المسلمين بأنهم “كفار وخوارج وفلول وشبيحة” ويدعون بكل استهتار إلى الخروج على الرئيس.
وفي المقابل يعتبر الصحفي الإسلامي محمد حمزة إبراهيم في جريدة مصرية بأن قوى المعارضة المتظاهرين ضد الإعلان الدستوري هم “كوكتيل شيطاني”، يهدف إلى تخريب الوطن، ويطالب بإلقاء القبض على محمد البرادعي (رئيس حزب الدستور)، وعمرو موسى (رئيس حزب المؤتمر)، وحمدين صباحي (رئيس حزب التيار الشعبي)، وأحمد الزند (رئيس نادي القضاة)، وتهاني الجبالي (نائبه رئيس المحكمة الدستورية)، وسامح عاشور (نقيب المحامين)، وسيد بدوي (رئيس حزب الوفد)، بدعوى دفع البلد إلى الفوضى.
وعندما يوجه خطيب الجمعة في ميدان التحرير الذي تعتصم فيه حاليا القوى المعارضة للرئيس إنذار حربيا للرئيس المنتخب بقوله: ” أيها القابع بقصر الاتحادية لا تظن ميلشياتك قادرة على قمعنا نحن نحب الموت وصدورنا عارية أمام طلقات الرصاص”.
وفي الطرف الآخر يعتبر خطيب الجمعة في مسجد النور، معارضي الرئيس مرسي بأنهم “منافقون وكذابون”، بقوله لجموع المصلين: “هل تريدون أن تبقوا مع النخبة الصادقة أم الفئة المنافقة الكذابة؟!”.
لا يملك الإنسان المتابع للشأن المصري والحريص على استقرار مصر ودورها القومي والإسلامي، إلا أن يقول بكل حزن ومرارة: أليس فيكم رجل رشيد؟!
قد تكون هذه الأحداث المأساوية التي ابتليت بها مصر، أو دبرت لها من الداخل والخارج، مثار بهجة وارتياح للذين حذروا من مخاطر موجة الربيع العربي، وصرفوا الأنظار إلى الصعوبات الظرفية التي تمر بها ليبيا، وتونس، ومصر، بعد إسقاط أنظمة الحكم السابقة التي أهلكت البلاد وأذلت العباد،و لكن على هؤلاء أن يدركوا أن مساوئ التحول الديمقراطي هي أفضل في كل الأحوال من الغرق في مستنقعات الفساد والاستبداد، ومصادرة الإرادة الشعبية بحجة أنه الشعوب العربية لم تبلغ بعد مرحلة النضج لبناء الديمقراطية!
نسأل الله أن يتوصل عقلاء مصر- وهم كثر- ورموزها الفكرية والدينية، وقادتها في السلطة والمعارضة إلى إنقاذ مصر من ضيق الأزمة، ومخاطر الفتنة!.ونسأل أن يعجل بالفرج وأن تصل هذه السطور إلى المطبعة مع استجابة كل الأطراف الفاعلة في مصر للاتفاق على تفضيل منطق الوئام على غواية الصدام.
بقلم الأستاذ. عبد الحميد عبدوس