لا إنسان ولا حيوان / /أ.محمد الهادي الحسني
بعث الداي الحاج علي باشا، داي الجزائر (1809 – 1815) رسالة إلى لويس الثامن عشر ملك فرنسا ليخبره عن الأسباب التي دعته إلى طرد قنصل فرنسا من الجزائر، ومما جاء في تلك الرسالة قول الداي الحاج علي باشا – رحمه الله -: “هناك مَثل عندنا يقول: إن الإنسان يُربط من لسانه والحيوان يربط من رأسه، ولكن هذا القنصل لا يمكن ربطه لا من لسانه ولا من رأسه (1)”.
لقد تساءلت – منذ قرأت وصف الداي الحاج علي باشا لهذا الكائن عن نوعه فما اهتديت، إذ لا هو إنسان ذو عقل يُتحاور معه ويتجادل معه كبقية بني الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولا هو حيوان يُركب أو يُسخّر في الخدمات..
ثم التقيت أحد الأصدقاء ممن زاملته في الدراسة فسألته عن “نوع” هذا الكائن الذي لا هو إنسان ولا هو حيوان، ففكر قليلا ثم اعتذر لعدم علمه، وافترقنا…
بعد مدة من الزمن هتف إليّ صديقي، وقال لي: هل تذكر قصيدة فيلسوف المعرة، أبي العلاء، “غَير مُجد في ملّتي واعتقادي…” التي حفّظها لنا الأستاذ الجليل عبد الحفيظ بدري، رحمه الله، في ثانوية عبان رمضان؟
أجبت صديقي بالإيجاب، وبأنني ما أزال أحفظ كثيرا من أبياتها، وذلك لروعة القصيدة في مبناها ومعناها، ولقيمة صاحبها ومكانته في أدبنا العربي، شعره ونثره، ولأن الآمر بحفظها هو الأستاذ عبد الحفيظ بدري، الذي لا تأخذه رأفة بمن لا يؤدي واجباته المدرسية..
قال لي صديقي: أسمعني بعض ما أبقاه توالي الأيام وكرّ الأعوام في ذاكرتك من تلك القصيدة؟
رحت أتلو على مسمع صديقي قصيدة المعري، مسترجعا صورة الأستاذ بدري وهو يتلوها بفصاحته النادرة، ومسترجعا تلك الأيام الجميلة (1964) “حيث الهوى والهواء الطلق مجتمع…” فلما وصلت إلى قول المعري:
والذي حارت البرّية فيه حيوان مستحدث من جماد.
استوقفني صديقي، وقال لي: قد يكون ذلك الكائن الذي وصفه الداي الحاج علي باشا هو من فصيلة هذا الذي عناه أبو العلاء المعري بقوله: “حيوان مستحدث من جماد”، إذ فيه من خصائص الحيوان الأكل، والشرب، والتناسل..؛ وفيه من صفات الجماد عدم الفكر، وعدم التطور، وعدم الإحساس.. ولهذا – كما يقول المعري – “حارت البريّة فيه”.
شكرت صديقي على هذا الاهتمام، وشكرته على هذا الاجتهاد في حل هذه الإشكالية التي أوقعنا فيها الداي الحاج علي باشا ومن قبله أبو العلاء المعري.
لقد تذكرت هذا كله في هذه الأيام بعدما رأيت ذلك الزنيم الفرنسي يصدر تلك الحركة التي تدلّ على معدنه، والشيء من مصدره لا يستغرب، فهو كما قال شاعرنا: وغد تكَوّن من لؤم ومن دنس.. فما يغار على عرض ولا حسب
وهو كما قال الآخر:
فإذا تمعّر أو تكشّر ضاحكا فكأنه من وجهه يتغوّط
لو كان ذلك الكائن إنسانا سويّا ذا عقل، وذا شعور لأبدى رأيه في قضية الاعتذار؛ ولكن لأنه ليس إنسانا تصرف بتلك الطريقة؛ ولذلك نقول له:
.
لو كنت تعقل ما فيـ ك أيها المسيّ
لم يصف عيشك لكن عيش الغبيّ هنيّ
ولذلك:
.
كن كيف شئت وقل ما تشا وأبرق يمينا وأرعد شمالا
نجا بك لؤمك منجى الذباب حمته مقاذره أن ينالا
.
وإنك لـَ:
أنت اللئيم فإن تصبر فمن قحة على الهوان، وإن تجزع فمن خور
اُنظر إلى الكلب مرميا لتعلم أن لم تترك شبها منه ولم تذر
.
ولذلك:
إذا بدا وجهكـ لقوم لاذت بأجفانها العيون..
.
وذلك لأن:
وجه “لنغي”(❊) يدعو إلى البصق فيه غير أنني أصون عنه بصاقي
وأما تلك الرقطاء “ابنة أمّها”(❊❊)، التي “استمتعت بحركة صاحبها”، والطيور على أشكالها تقع، و”تمنّت لو كانت “رجلا” لتقوم بذات الحركة”، فـ:
لها وجه قرد إذا آزَّيّنت ولون كبيض القطا الأبرش
و:
يلاقي الأنف من فمها عذابا (❊❊❊) وترى العين منها شرّ مرأى
لأن:
ريح الكرائم معروف له أرج وريحها ريح كلب مسّه مطر
ومثلها – كما قيل في أمثالنا – كمثل “الشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تُثمر إلاّ مُرّا”.
لقد تأكدت أن هذا “الكائن الغريب” الذي ليس هو إنسانا، وليس هو حيوانا، والذي هو “مستحدث من جماد” لا وجود له إلا في هذا البلد المسمى “فرنسا” الذي يتمجّد ويفتخر بالجرائم، أي مما يتوارى من فعله البشر الأسوياء، ولهذا فنحن الجزائريين في:
بلاء ليس يشبهه بلاء… (لـ) عداوة غير ذي حسب ودين
إن عقدة الفرنسيين اسمها “الجزائر” فلو – لا قدر الله – انتصروا عليها لما كان لهم أدنى مجد، إذ النصر على شعب أفنوا أكثر من نصفه، وجوّعوه، وجهّلوه، وأمرضوه، وليس له من الأسلحة والإمكانات شيء مذكور لا يدعو إلى الفخر؛ وإن هزيمته لهم – وهو على ما وصفت، وهم على ما يعرف الناس من كثرة عدد، وصحة أبدان، ووفرة أسلحة، وكثرة وسائل، ومناصرة الحلف الأطلسي – لهو العار المضاعف الذي يدعو إلى اسوداد الوجه، والتواري من الشعوب الأخرى.. وقديما قال شاعر من بني جلدتنا:
فنذل الذكور كنذل النبات فلا للثمار ولا للحطب.
لقد أردنا أن نرفعكم – أيها الفرنسيون – إلى مستوى البشر فطلبنا منكم الاعتذار عن جرائمكم، لأن الاعتراف بالجرائم فضيلة لا يقدر عليها إلا الفضلاء فأبيتم إلا البقاء كما وصفكم الداي الحاج علي” لا أناسا ولا حيوانات”.
.
هوامش:
1) جمال ڤنان: العلاقات الفرنسية الجزائرية.. ص 220، هـ: 124.
❊) هو جيرار لُنغي، وزير دفاع ساركوزي، وعضو مجلس الشيوخ الفرنسي حاليا.
❊❊) هي ماري.. رئيسة حزب “الجبهة الوطنية” في فرنسا.
❊❊❊) كناية عن البخر، وهي الرائحة الكريهة التي تخرج من الفم القذر معنى وحسّا.
الشروق أونلاين
الخميس 8 نوفمبر 2012 ميلادي الموافق لـ 23 ذو الحجة 1433 هجري