نوفمبر: شهادة ميلادنا الجديدة..
سوف يظّل الفاتح من نوفمبر –في حياتنا- علامة تاريخية مضيئة، وفاصلة زمنية تحوّلية جريئة، لأنّه يرمز إلى شهادة ميلاد وجودنا الحضاري الحقيقي. إنّه آذان بمولد الإنسان الجزائري الجديد، الذي استهل بثورته ولادته، صارخًا في وجه الاحتلال الاستيطاني، والغزو الاستعماري اللاإنساني، مبشرًا بعودة ظهورنا الفاعل على الساحة الدولية، ومثبتا أحقيتنا في استعادة سيادتنا الخفية.
لقد غيّر نوفمبر 54، نظرتنا إلى الحياة، ونظرة الأحياء إلينا، فبعثنا من مرقدنا، في رحلة إلى الحياة، نطلب الاستشهاد ليوهب لنا الخلود، وكان لنا ما أردنا، تغيّرت سحنتنا، وتفعّلت شحنتنا، فتجذرت ثورتنا؛ وقدّمنا أروع الصور عن عزيمتنا وإرادتنا.
هذي دمانا الغالية دفاڤهْ
وعلى الجبال أعلامنا خفاڤهْ
وللجهاد أرواحنا مشتاڤهْ
جيش التحرير احْنا
مَناشي فلاڤهْ
هو صوت بعيد المدى كما يقول محمد العيد، استجاب له الفلاح في حقله، والطالب في فصله، والسياسي بعقله، فكان التلاحم، والتكامل.
لقد أرهب الميلاد الحضاري الجزائري الاستعمار بكل فلوله، فجنّ جنونه، وخابت ظنونه، فجنّد كلّ أنواع أسلحته المادية والمعنوية، يحارب أطيافاً من ملائكة البشر، ما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا. إنّ الذين عاشوا ميلاد الفاتح من نوفمبر في حياة الجزائر يذكرون –ولا شك- أيّ جزائري كان آنذاك! فقد تدثر بلباس الوطنية والتقوى، وتسلّح بقيم الوعي والبلوى، فأصبح شبيها، بالإنسان الصحابي في عهد بعث الرسالة الإسلامية، حيث كان السباق نحو الجنة هو الغاية، والتضحية في سبيل تثبيت المبادئ هي البداية والنهاية.
ولا تسلني كيف كنا؟ وكيف أصبحنا؟ ولا ما الذي غير سُحنتنا؟ وبدد شُحنتنا؟ وضاعف محنتنا؟ فقد حِدنا عن نوفمبر، وخُنا مبادئ نوفمبر، وتنكّرنا لرجال نوفمبر، فخسرت تجارتنا، وتعجمت عبارتنا، وفسدت إدارتنا، وتحشرجت قيثارتنا.
فلا الأذان أذانٌ في منارته إذا تعالى، ولا الآذان آذان
كما يقول أمير الشعراء شوقي.
ونعود إلى أنفسنا لنتساءل: أليس هذا الإنسان الذي دهاه ما دهاه اليوم، سليل ملائكة البشر الذين صنعوا معجزة نوفمبر؟
أليس التراب الجزائري الذي نعيش على أديمه اليوم، بفسقنا التعيس، ورزقنا البئيس، هو نفس الأديم الذي سقيناه بعرق ودم العلماء والشهداء؟.
إنّنا نتساءل مع صديقنا الدكتور أبي القاسم سعد الله -حفظه الله- في رائعته الشعرية التي تحمل عنوان الطين:
قلت للأرض التي فيها رفاة أبويا
لِمَ نحن قد خلقنا هكذا طينا دنيا
نألف العيش ونمضي كلنا شعبا…؟
قالت الأرض كلاما، لم يكن إلا دويا
دفن الذل أناسا قبلكم من يديّ
فما الذي تغير، وتطور في جزائر نوفمبر؟
تغير كلّ شيء، وتطور كلّ شيء، لقد كنّا نُربي قبل أن نُعلم، فصرنا نُعلم ولا نُربّي. وكنّا نكوّن النشء منذ نعومة أظفاره على الأنا الجماعي فينشأ ضعيفًا بنفسه قويًّا بإخوانه، فصار النشء عندنا ينشأ على ما يعرف في علم النفس بعقدة “التركيز الذاتي: égocentrisme”، فلا يوقر شيخا كبيراً، ولا يحترم عالما نحريرًا، يكفر بالقيم، ويعتدي على الذمم، وكيف يرجى من مجتمع هذه مقوماته الفاسدة، أن تكون نتائجه صالحة.
هل نيأس، هل نستسلم؟ لا إنّ رياح التغيير التي هبَّت علينا في نوفمبر 54، فنقلتنا من البشر إلى الملائكة، ومن مسلمين إلى صحابيين بدريين، ثم أصابتنا رياح التغيير بعد حقب، فنزعت عنا براءتنا، وطمست في ضمائرنا قداستنا، إنّ هذه الرياح توشك أن تكون عابرة، وتوشك أن تكون صواعقها ورعودها كاذبة، وسيهبّ على جزائر العلماء والمجاهدين والشهداء والصالحين، نسيم الصبا، الذي يبدد الظلمة، ويكشف الغمّة، وعندها يحمد القوم السرى، فيعود إلينا نوفمبر بوجهه الصبوح، ووعيه الطموح، فنولد ولادة حضارية جديدة، وما ذلك على الله بعزيز.