بالله لا تقطعوا الأرحام / د.عبد الحفيظ بورديم
لو أنّ الزمان يبوح بالأسرار لكشف عن خبيء في دورة الأقدار. كانت الشام مرمى للصليبيين وكانت الجزائر في عين الحاقدين، ولكن إرادة الغادرين جرت أن تقوّض أركان الديار، دارا بعد دار حتى لا يبقى فيها موئل للأحرار. كذلك فعل الرومان من قبل حتى ضجّ من طغواهم الزيتون والنخل، ولولا نعمة الإسلام لظلّ المشرق والمغرب في قبضة اللئام.
والتاريخ خير شاهد أنّ بين الشام والجزائر إلف المشاهد. قد كانت الشام دارا للمقري، وابن عفيف، ثمّ صارت رباطا لأبي مدين وجوارا للظريف، وحييت مدارسها بجهد الشيخ طاهر، واتخذها مقاما الأمير عبد القادر، وصارت دار هجرة لكلّ حرّ أبيّ من مثل العارف ابن يلّس والمجتهد الابراهيمي.
وقد أراد الاستحمار بالشام عدوانا فأوقد للفتن نيرانا، وأجرى بين الدمشقيين شنآنا، وقد كانوا من قبل جيرانا وإخوانا، فتقاتلوا باسم الأولياء وأراقوا الدماء باسم الأنبياء. وما بغت من قبل كنيسة على مسجد ولا مسجد على معبد. ولمّا ضاقت بالنصارى دمشق ما وجدوا غير دار الأمير ترقّ، فأطفأ بالحكمة مكر الغادرين، وأقام بالحسنى الصلح بين الدمشقيين.
وحفظت الشام ذكرى الأمير وأبدت الحبّ لكلّ جزائري غيور، وصارت الأرحام بالتعاطف أقوى وصارت الأفئدة بالتعارف أروى، فما فرحت قسنطينة إلاّ طربت لها معرّة النعمان، ولا سعدت حلب إلاّ بادلتها هوى حاضرة وهران.
واليوم وقد تزيّنت ليالي الجزائر بانتصار الحقّ الثائر وانبلاج نوفمبر الزاهر، عصفت بالشام محن تترى وغزتها أهوال كبرى. وكم وددنا أن تطوي الفرحة المكان طيّا، وخير القصيد ما كان شاميا، فتجعل في طرسوس بلبلا صدحا وفي الأوراس طيرا فرحا. ولكن ما بالها الأيام حبلى بما يسوء والليالي لا تلقي إلاّ بما ينوء.
هل نستلذّ ذكرى الانتصار ودمشق تأسر خلدونا حفيد الأمير كالأشرار. وهي التي تعلم منه النسب إلى بيت النبوة وحميد القدوة، وهي التي تعرف مكانه من بيت الأمير الجزائري مرفوعا إلى الحسن بن عليّ، فإن لم تشفع له الثانية ألا تشفع له العالية.
ألا أيّها الأسد أعيذك أن تكون كابن زياد، تفرط في الأذى ووأد الوداد. ذاك في الأوّلين أقبح المجرمين أهرق دم الحسين، فارتفع حسين شهيدا مأجورا وارتكس ابن زياد ملعونا موتورا. ولو شئت لحفظت لرحم الأمير كبده، ولأهديت لرحم الجزائر ولده.
واعلمن أنّه لا عزّ للجزائر إلاّ بعزّ ديار الشام، ولا عزّ لديار الشام إلاّ بعزّ ديار الإسلام. ألا وإنّها أرحام وصلها واجب وحفظها راتب.