ثورة نوفمبر ودور جمعية العلماء /الدكتور مسعود فلوسي
نعيش هذه الأيام أجواء الاحتفال بالذكرى الثامنة والخمسين لاندلاع الثورة التحريرية الكبرى، ثورة أول نوفمبر الخالدة، التي أنهت احتلالا ناء بكلكله الثقيل على بلادنا مدة قرن وثلث قرن، ذلكم الاحتلال البغيض الذي نهب ثروات البلاد واستذل العباد ونشر الجهل والظلام وأغلق منافذ النور وأعاد ترتيب الجزائر والجزائريين في سلم الحضارة والمدنية قرونا عديدة إلى الوراء.
استدمار حضاري
ليس من نافلة القول أن نُعيد التذكير هنا بما اقترفه الاستدمار الفرنسي في حق الجزائر والجزائريين والجرائم البشعة التي أوقعها منظروه وجلادوه وسماسرته في حق الفرد والمجتمع الجزائري طيلة فترة احتلاله للبلاد، والآثار السلبية التي لحقت بالجزائر نتيجة ذلكم الاحتلال وما زالت تلحق حتى بعد الاستقلال.
لقد كان من أول أهداف الاستدمار الفرنسي لدى دخوله إلى الجزائر محتلا؛ أن يبقى فيها إلى الأبد، وأن يستأثر بخيراتها وثرواتها المادية أبد الدهر، ولتحقيق ذلك كان لا بد من إلغاء شخصية الإنسان الجزائري وإقناعه بالتدريج أنه فرنسي وأن وطنه الأصلي هو فرنسا، وأن الجزائر تبعا لذلك لابد أن تكون ولاية فرنسية شكلا وروحا.
إن الاستدمار الفرنسي لم يأت إلى الجزائر في حملة عسكرية مجردة هدفها إخضاع الجزائريين للسلطة الفرنسية فحسب، وإنما جاء في حملة حضارية هدفها نشر الثقافة والحضارة الفرنسية وطمس الهوية الحضارية الجزائرية، يتجلى ذلك من خلال جلب عدد كبير من العلماء والمفكرين الفرنسيين والمعروفين حينئذ بالمستشرقين، لدراسة الفرد والمجتمع الجزائري ووضع الخطط الثقافية والفكرية الكفيلة بإخضاع الجزائريين لنزوات الاحتلال الفرنسي جسدا وروحا.
وهكذا، فإلى جانب الحملات العسكرية التي كان الاحتلال يشنها على مختلف مناطق البلاد لإخضاعها للحكم العسكري الفرنسي، كانت هناك حملات ثقافية دائبة تعمل في الخفاء وفي العلن لطمس الهوية الوطنية الجزائرية، من خلال إغلاق العدد الأكبر من المساجد وتحويل بعضها إلى كنائس وبعضها إلى اسطبلات للخيول والبغال، وكذا فتح الأديرة والكاتدرائيات في مختلف مناطق الوطن وإطلاق الحبل للآباء البيض لتنصير الناس وإخضاعهم لسلطان الكنيسة وهمينتها، وكذلك محاربة اللغة العربية في كل مكان بإغلاق الكتاتيب القرآنية والمدارس العربية، وطمس التاريخ الوطني بنشر الأكاذيب وترويجها وادعاء أن الجزائر لم يكن لها في يوم من الأيام كيان ولا وجود إلا في ظل الاحتلال الفرنسي.
التنكيل بالعلماء والمفكرين
وحتى يخلو الجو للاستدمار الفرنسي لتحقيق أغراضه الإجرامية تلك في حق الحضارة والثقافة الإسلامية في الجزائر، فقد أغلق أمام العلماء والمفكرين الجزائريين كل المنافذ التي يمكن أن يصلوا من خلالها إلى الشعب لتوعيته وترشيده، وذلك بنفي هؤلاء العلماء من البلاد وإجلائهم بعيدا إلى المشرق العربي، أو بقتلهم والتنكيل بهم إذا رفضوا ذلك..
كما عمل الاستدمار الفرنسي على نشر النعرات القبلية والعنصرية والترويج لها على نطاق واسع، وكذا نشر الطبقية بين أفراد وفئات المجتمع الجزائري، حتى يضمن ولاء العائلات والأعراش الكبيرة مقابل فتات من الامتيازات يقدمه لها، وبذلك أمكنه أن يقسم الجزائريين أشتاتا ممزقة وأوزاعا متفرقة ويضمن عدم وحدتهم وتضامنهم للتخلص من هيمنته.
وبالفعل، فلم تمر سوى عقود قليلة من السنين حتى كانت الجزائر كلها خاضعة لسلطان الاستدمار الفرنسي، وأصبح الجزائريون، إلا قليلا جدا منهم، يتقلبون في شقاوة الجهل والتخلف والظلام، يعانون العري والجوع والأمراض الفتاكة والجهل المطبق، لا يعرفون من دينهم ولا من تاريخهم ولا من لغتهم شيئا إلا ما يقوله لهم سماسرة الاستدمار.
وعلى الرغم من جهود المقاومة التي بذلت من قبل عدد كبير من المجاهدين الجزائريين على مدى قرن كامل من الاحتلال، إلا أن تلك الجهود كلها لم تؤتِ ثمرتها ولم تتكلل بتحرير البلاد والعباد، بل كانت تُقمع بضراوة ويتم التعامل معها بعنف وإرهاب شديدين.
وهكذا، فقد بلغت الجزائر، بعد قرن من الاحتلال، أي بين سنة 1830 وسنة 1930، درجة من انطماس الهوية وإطباق الجهل والظلامية، بدا معها للمستدمرين الفرنسيين أنهم قد تمكنوا من رقاب الجزائريين وإلى الأبد، وأن الجزائر لم يعد لها من الانتماء العربي الإسلامي شيء وأنها أصبحت وإلى الأبد ولاية فرنسية ولا يُتصور أن تنفصل عن فرنسا في يوم من الأيام.
إنشاء الجمعية لمقاومة المشروع الاستدماري
كان سماسرة الاستدمار الفرنسي ومنظروه يتصورون أن الأمور أصبحت كذلك، وأنه قد آن لهم أن يناموا ملء جفونهم هانئين مرتاحين مطمئنين، ولذلك أعلنوا إقامة احتفالات ضخمة وتظاهرات صاخبة بمناسبة مرور قرن كامل على احتلال الجزائر.. لكن ما لم يكن في حسبانهم ولم يتوقعوه إطلاقا؛ أن يلتقي ـ في نفس موعد تلك الاحتفالات ـ فريق من العلماء والمفكرين الجزائريين على إنشاء هيئة علمية وثقافية أسموها (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) تتولى تثقيف وتوعية الشعب الجزائري بدينه ولغته وتاريخه وهويته الحضارية وانتمائه التاريخي والثقافي.
هؤلاء العلماء كان كل منهم قبل ذلك يعمل لوحده وينشط في إطار بيئته ويقدمون جهودا فردية لم يكن لها تأثير كبير، ولذلك رأوا أن خير وسيلة لقلب الموازين وإعادة بناء ما هدمه الاستدمار الفرنسي؛ هي التجمع والتعاون والعمل المنهجي المنظم.
وفعلا بدأوا العمل بفتح المدارس في مختلف مناطق الوطن، وأسسوا الصحف والمجلات وأرسلوا البعثات الطلابية إلى الخارج وجندوا فئات المجتمع لمساندة هذه الأعمال ماديا ومعنويا، وما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت جهود الاستدمار الفرنسي التي بذلها خلال قرن كامل قد بدأت تتهاوى وتنهار، فيحل محل الجهل العلمُ، ومحل الأمية القراءةُ والكتابةُ، ومحل الغفلة الوعيُ، ومحل التشتت والتفرق التعاونُ والتضامنُ، ومحل الاعتقاد بالانتماء إلى فرنسا إدراكُ أن الانتماء الحقيقي إنما هو إلى العالم الإسلامي والعربي، ومحل الحديث بالفرنسية الكلامُ الفصيحُ بالعربية، ومحل التحلل والتفسخ والفسوق والفجور التقوى والتدينُ.
ولم يكن سماسرة الاحتلال والاستدمار يتفرجون على عمل هؤلاء العلماء ـ وهم يهدمون ما بنوه ـ دون أن يحركوا ساكنا، كلا، فقد بذلوا كل ما أمكنهم من جهود، وساوموا هؤلاء العلماء بالترغيب والترهيب، وجندوا ضدهم بعض الفئات من الجزائريين الذين كانوا يدينون للاحتلال بالولاء، وأغلقوا مدارسهم وأوقفوا عن الصدور صحفهم ومجلاتهم، واعتقلوا بعضهم، إلا أن تلك الجهود كلها لم تؤثر في عمل هؤلاء العلماء ولم تنقص من نشاطهم ولم تحد من التفاف الجزائريين حولهم.
الوعي منطلق الثورة
كان من نتائج عمل العلماء؛ أن معظم الجزائريين صاروا يدركون هول الجرائم التي اقترفها الاستدمار الفرنسي في حق البلاد والعباد، وأصبحوا يعون جيدا أن هذا الاستدمار لا يمكن التعامل معه إلا بالطريقة التي يتعامل بها، ولا يمكن إخراجه من البلاد إلا بالطريقة التي دخل بها إليها، فلا يفل الحديد إلا الحديد، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
يقول الأستاذ محمد الغسيري رحمه الله: “إن أية ثورة مسلحة لا يكتب لها النجاح إلا إذا سبقتها ومهدت لها الثورة الفكرية، وكانت مدرسة عبد الحميد ابن باديس بحق في طليعة هذه الثورة الفكرية”.
وبالفعل، فلم يمر وقت طويل حتى أعلن الجزائريون ثورتهم الحاسمة والمنظمة ضد الاستدمار الفرنسي وسماسرته وجلاديه وأذنابه، وخلال سبع سنوات ونصف، والتي كانت عمر الثورة، تجند الشعب كله لطرد جنود الاحتلال، وقدم كل فرد من أفراده، وكل فئة من فئاته، ما أمكن من طاقة وجهد وتضحية بالنفس والأهل والمال، وكانت التضحيات كبيرة، وكانت المهمة شاقة وعسيرة، وكانت الطريق طويلة وقاسية، ذلك أن الاستدمار وجنوده لم يقفوا موقف المتفرج وإنما بذلوا المستحيل في سبيل إبقاء الجزائر في قبضتهم، فلم يكفهم أن يجمعوا قواتهم من مختلف بقاع العالم وإرسالها إلى الجزائر، بل أضافوا إلى ذلك الاستنجاد بقوة حلفائهم وجيوشهم الجرارة، إلا أن جهودهم كلها باءت بالفشل، ولم تفلح قوتهم الضاربة ممثله بالدبابات والطائرات والأسلحة الفتاكة في إرهاب الجزائريين وتخويفهم، كما لم تفلح سياسة الأرض المحروقة التي شنوها في تركيع الشعب الجزائري وإخضاعه، فما كان منهم في النهاية إلا أن سلموا بالهزيمة الساحقة واعترفوا بالنصر المبين للشعب الجزائري وأبنائه المجاهدين، وبذلك عادت الجزائر إلى أهلها وصار حكمها بيد أبنائها، ونادى الجزائريون في احتفالات الاستقلال: (يا محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت ليك).