عيد الأضحى والمعاني الربانية/ الدكتور مسعود فلوسي
ميز الله عز وجل أمة النبي محمد عليه الصلاة والسلام عن غيرها من الأمم بعيدين مباركين، كل منهما يأتي بعد الانتهاء من أداء عبادة عظيمة وركن ركين من أركان الإسلام. فعيد الفطر يأتي مباشرة إثر الانتهاء من أداء فريضة الصيام في شهر رمضان، وعيد الأضحى يأتي متمما ومقترنا بأداء مناسك الحج في رحاب بيت الله الحرام.. ونحن، إذ نستقبل عيد الأضحى المبارك، جدير بنا أن نعرف المعاني الربانية المقترنة بهذا العيد والمقاصد السامية التي لأجلها شرع الاحتفال به والفرح فيه.
الفرح بأداء العبادة
لعل أول معنى شرع لأجله الاحتفال بالعيد؛ هو الفرح بأداء العبادة والاشتغال بما يرضي الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى ما خلق عباده إلا ليعبدوه ويتقربوا إليه ويحرصوا على مرضاته، كما قال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات :56]، فإذا استطاع الإنسان أن يطوع نفسه لربه عز وجل ويجتهد في طاعته ويواظب على عبادته ويطمئن قلبه وتخشع جوارحه في حضرته، كان مستحقا للفرح بذلك.
ولا شك أن الهداية إلى الصراط المستقيم وقبول الله لعبده ضمن عباده المتقين، نعمة عظيمة تستحق الحمد والشكر والثناء على الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57-58].
ومن مظاهر شكر الله عز وجل؛ تكبيرُه وتعظيمُه، وهو ما شرع سبحانه وتعالى لعباده أن يكثروا منه ويحرصوا عليه في أيام العيد، قال تعالى تعقيبا على آيات الصيام: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]. وقال عن تشريع التقرب بالأضاحي: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 36-37].
فالتكبير علامة الفرح وآية الشكر ودليل الرضا، لأنه يعني أن المؤمن يمحض العبودية لربه عز وجل ولا يعترف بالفضل إلا له سبحانه وتعالى، وأن قلبه لا يمتلئ بالتعظيم لأحد غير الله ولا يرجو أحدا سواه ولا يخاف إلا منه عز وعلا.
وهو كذلك تعبير عن الاعتقاد المطلق بأن شرع الله عز وجل هو الحق المبين وأنه – دون غيره – الأجدر بالاتباع لأنه وحده الهدى والصراط المستقيم وكل ما عداه من مذاهب وملل ونحل مسالك وسبل تقود إلى الانحراف والضلال والشقاء في الدنيا والآخرة. قال سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]. وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الصف: 7].
وإن في ذلك لعبرة لنا نحن المسلمين المعاصرين، لنتمسك بتعاليم ديننا ونحرص على تطبيقها وتجسيدها في حياتنا العملية في الشؤون المختلفة، ونشعر بالفخر والامتنان لربنا عز وجل إذ أكرمنا بالهداية إلى دينه وجعلنا من أتباع خاتم رسله وأنبيائه.
الارتباط بمبادئ الإسلام وقيمه
من معاني العيد أيضا؛ ربط المسلم بمبادئ الإسلام السامية وقيمه الخالدة، وهذا ظاهر في عيد الأضحى بصفة خاصة، فهو يرتبط في وجدان المسلم بمبدأ الطاعة المطلقة لله والتضحية بكل ما يملك الإنسان في سبيل تحقيق مرضاته عز وجل. هذا المبدأ الذي ضرب أروع الأمثلة فيه وجسده في الواقع تجسيدا منقطع النظير أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام.
وهو ما قصه الله تعالى علينا في كتابه الكريم، في قوله عز من قائل: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات: 102-111].
وربطا للمسلم بمبدأ التضحية وتدريبا له عليه، شرع الله عز وجل في هذا العيد أن يتقرب إليه عباده المسلمون بذبح الأضاحي، فالمسلم يبذل ماله في سبيل مرضاة ربه عز وجل طائعا راضيا، متأسيا في ذلك بإبراهيم عليه السلام الذي رضي أن يضحي بأعز الناس إليه وهو ابنه إسماعيل عليه السلام، الذي رضي بدوره أن يضحي بنفسه في سبيل مرضاة ربه عز وجل. وقد أرشدنا ربنا عز وجل إلى ذلك في قوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4].
ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل عمل ينبغي أن يحرص عليه المسلمون في يوم عيد الأضحى؛ أن يتقربوا إلى الله عز وجل بذبح الأضاحي، وأن يفعلوا ذلك راضين مطمئنين فرحين بتحقيق مرضاته سبحانه وتعالى وطاعته في ما أمر به. فقد روى ابن ماجه في سننه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا”.
والحق أن ديننا الحنيف إنما قام من أول يوم على مبدأ التضحية، فلولا تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصل هذا الدين إلى أصحابه ولما اعتنقه أحد من الناس، ولولا تضحية أولئك الأصحاب الكرام ما أمكن للإسلام أن ينتشر في ربوع الأرض ويدخل فيه الناس أفواجا. ولولا تضحية العلماء والشهداء والصالحين من أبناء هذه الأمة عبر مسارها التاريخي الطويل ما وصلنا الإسلامُ اليومَ وما كنا من المسلمين.
إن هذا المبدأ الذي قام عليه دينُنا بالأمس هو الذي يقوم عليه اليوم وهو الذي يقوم عليه إلى يوم الدين. ولن يخرج المسلمون مما هم فيه من ذلة ومهانة وسقوط وتخلف في كافة مجالات الحياة، إلا يوم يتخذون من التضحية ونكران الذات مبدأ يسيرون عليه في حياتهم ويربون عليه أبناءهم ويتقربون به إلى ربهم عز وجل. هذه هي سنة الله في عباده، وهذا هو منطق الحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. وهذا هو الدرس الذي نتعلمه من ربط فريضة الحج وعيد الأضحى بسنة إبراهيم الخليل عليه السلام الذي ضرب من نفسه المثل في التضحية بالنفس والمال والأهل والولد في سبيل مرضاة الله عز وجل.
تحقيق الأخوة الإسلامية
ومن معاني العيد ومقاصده الربانية؛ تحقيق الأخوة الإسلامية وتجسيد صورة المجتمع المسلم الملتزم بمبادئ الإسلام وأحكامه، والتي حددها ربنا سبحانه وتعالى في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، ورسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى شيئا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وفيما أخرجاه أيضا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”، وشبك عليه الصلاة والسلام بين أصابعه.
هذه الأخوة إنما تتجسد حين يتضامن المؤمنون فيما بينهم، ويسأل غنيهم عن فقيرهم، ويرحم قويهم ضعيفهم، ويتواضع كبيرهم لصغيرهم، وتسود المودة والمحبة والتراحم علاقاتهم ومعاملاتهم.
وهذا التضامن لا يكون بمجرد المشاعر القلبية المفصولة عن السلوك العملي، بل يجب أن يترجم في شكل مبادرات واقعية، ويأتي على رأس هذه المبادرات التي ينبغي الحرص عليها في عيد الأضحى؛ أن يجتهد الأغنياء القادرون في إشراك الفقراء المحتاجين والمساكين المعوزين في الفرح بالعيد والاستبشار بقدومه.
وفي هذا السياق يأتي حديث نبوي شريف يتضمن معنى عميقا يجدر بالمسلمين جميعا أن ينتبهوا إليه، لأنه من قيم الدين المنسية في حياتنا نحن المسلمين المعاصرين، فقد روى مسلم فى صحيحه وأبو داود فى سننه وأحمد فى مسنده عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ”. قَالَ أبو موسى: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْل.
والمعنى الواضح للحديث؛ أن المسلم لا يحق له أن يستأثر بشيء مما يملك ويمنعه إخوانه المسلمين وهو زائد عن حاجته.
هذا في سائر الأيام، فكيف بالأيام التي تشتدُّ فيها حاجة الفقراء والمساكين والضعفاء؟
وهنا نقول صراحة: إن الغني المسلم لا يبلغ أن يكون مسلما حقا، ولا يعتبر مقيما للشعائر كما أرادها الله سبحانه وتعالى، إلا إذا أشرك – في بعض ما يملك – إخوانه المسلمين المحتاجين، خاصة منهم الأقارب والجيران، وبصفة أخص في مناسبة كمناسبة عيد الأضحى المبارك، التي يشعر فيها الفقير بوطأة الفقر ويحس هو وأفراد أسرته بالذل والمسكنة لعدم القدرة على الاحتفال بالعيد كما يحتفل الأغنياء.
والغني إذا فعل ذلك وضرب المثل من نفسه في الإيثار ومساعدة إخوانه المؤمنين، كان ذلك منه تعظيما لشعيرة من شعائر الإسلام، الذي مدح الله عز وجل من يحرص عليه واعتبره علامة على تقواه وتمكن الإيمان من قلبه، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
بل جعل سبحانه وتعالى الانتصار على النفس والإيثار عليها وتغليب مصلحة المحتاجين على دواعي الشح والإمساك، سببا للفلاح، وذلك في قوله الكريم: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]، وحذر من يعرض عن الإنفاق في سبيل الله ولا يبالي به من الندم ساعة لا ينفع الندم، في قوله سبحانه: (وَأَنْفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُم الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنْ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].
تلك بعض المعاني الربانية الكامنة في عيد الأضحى، والتي يجدر بنا نحن المسلمين أن نحرص على تحقيقها في واقع حياتنا، فبذلك نسعد في الدنيا ونحظى بالنجاة والفلاح في الآخرة.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.