«البصائر » تحاور المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث

يسرنا أن تضع أسبوعية البصائر الغراء – هذا الجزء الاول لحوار طويل، بين يدي جمهور القراء العرب عموما والجزائريين خصوصا من أبناء الصحوة الاسلامية، وكل المهتمين بشأن هذه الصحوة عامة؛ من الباحثين والمثقفين والسياسيين وقادة الرأي العام في المجتمع والأمة. وقد حاولنا في هذه الحوار مع المفكر الجزائري، تغطية بعض الجوانب المتعلقة بتجربة الحركة الإسلامية، وبالمكاسب التي حققتها، وبالتحديات التي تواجهها، وبالآفاقالمستقبلية التي تنتظرها. بحيث يرى سماحته، من  خلال كتبه وسلسلة محاضراته الاخيرة في منتدى الدراسات السننية و قبله في كل من الكويت و المغرب و الجزائر، أن الحركة الإسلامية في الجزائر- كمثيلاتها في عالمنا العربي والإسلامي- قد ألقت بنفسها في خضم المعتركات السياسية والاجتماعية، وانتقلت بشكل طفري من النخبوية إلى الشعبوية، ومن الدعوية إلى السياسية، أصبح لزاما عليها أن تهتم بتقويم تجربتها بكل جدية وموضوعية ومنهجية، بل وأن تتجاوز ذلك إلى مرحلة بناء منظومة متكاملة لفقه المراجعة والتقويم.
البصائر : أستاذ مرحبا بكم، بداية نفتح نافذة على مصطلح «الاسلامية » هل يمكن أن تحددوا لنا بدقة شعار «الإسلامية » الذي رفعته العديد من الجمعيات المحلية والسياسية وغيرهما، التي تنتمي أو تنتسب بحق للحركة الاسلامية؟
الدكتور الطيب برغوث / إن الحركة الإسلامية وهي ترفع شعار «الإسلامية » وتنتسب إليه، وتخوض معتركات الإصلاح والتغيير والتجديد على ضوئه، يجب
عليها أن تعي بعمق، بأنها قد وضعت نفسها أو جهدها في سياقه الاستخلافي السنني الصحيح، ونأت بنفسها عن الدوائر التجزيئية
الضيقة، التي عادة ما يتمحور حولها هم واهتمام الوعي البشري غير الرسالي، الذي تستوعبه الذاتية الفردية أو العشائرية أو الحزبية أو الوطنية أو القومية.. التي كثيرا ما تقود إلى الشعوبية والعنصرية والهيمنة الاستكبارية الإقصائية.
إن شرف الإسلامية وعظمتها، يرفضان منطق الرداءة الفكرية والروحية والأخلاقية والسلوكية والمنهجية، فالشخص المعلول الغايات، المستور المطامع، الآكل على كل الموائد، يضر بشرف الإسلامية وقدسيتها وسمعتها ضررا كبيرا، كما قال ذلكالإمام البنا رحمة الله عليه بحق، وهو يحذر من استغلال الدعوة لأغراض غير شريفة: «وإن كان فيكم مريض
القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي، فأخرجوه من بينكم، فإنه حاجز للرحمة، حائل دون التوفيق .»
فالله سبحانه لم يكن ليدع دينه العظيم مطية سهلة، يركبها كل مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، نهَّازٍ للفرص، كما نبه على ذلك في مثل قوله تعالى: )مَّا كَانَ اللُّه لِيَذَرَ ا ؤْملُْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ…(.
بالمناسبة بأي مفهوم تستخدمون مصطلح الحركة الإسلامية الذي كثر تداوله بمضامين متعددة ؟
الدكتور الطيب برغوث / أنا أفهم أو أتصور الصحوة بأنها صحوة مجتمع وليست صحوة جزء من المجتمع، فالصحوة الإسلامية صحوة اجتماعية عامة تعني حركة المجتمع التدريجية باتجاه إعادة الالتحام الواعي بذاتيته الثقافية والحضارية، والارتكاز عليها في نهضته الفكرية والاجتماعية والحضارية.
وهذا المفهوم الذي يعبر فعلا عن حقيقة الصحوة الإسلامية، حاولت وتحاول جهات عديدة داخلية وخارجية، التشويش عليه، بحصر مفهوم الصحوة في بعض الأشخاص والتنظيمات والأفكار والمظاهر، وصولا إلى منعطف إلباس الصحوة رداء الإرهاب لقطع الطريق على التحولات الضخمة التي كانت ولا زالت الصحوة، بالمفهوم الذي حددناه، تحملها في أحشائها.
أما مفهوم الحركة الإسلامية فهو يعني الجزء المؤسسي المؤثر في حركة الصحوة، سواء قامت به شخصيات فكرية مستقلة، أو تنظيمات حركية معروفة، أو مؤسسات رسمية ومدنية عديدة، فهذه الجهات كلها تدخل في مفهوم الحركة الإسلامية المؤطرة لحركة الصحوة والمؤثرة فيها.
ما هي إذن، في نظركم، التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية آنيا ومستقبليا؟
الدكتور الطيب برغوث /قبل أن أجيب على سؤالك، أود أن أؤكد على ملاحظة منهجية، وهي أن التقييمات الفردية تظل جزئية وقاصرة في التشخيص الشمولي التكاملي المعمق للوضع. واسمح لي أن أقول لك بكل مرارة وأسف، بأن هذا التفكير المنهجي المؤسساتي كان من المقاصد الأساسية للعمل الاسلامي في الجزائر، ليساهم في عملية التأطير والتأهيل والوقاية الفكرية والتربوية الاستراتيجية للصحوة والحركة والمجتمع.
أما عن التحديات التي تواجه الحركة الاجتماعية « الإسلامية » فهي كثيرة؛ فكرية وتنظيمية واجتماعية وسياسية؛ ذاتية وخارجية.. دعنا نركز على بعض عناوينها الرئيسة في نقاط:
تحدي المحافظة على مكاسب الصحوة الاجتماعية: التي حققتها الصحوة بفضل مجاهداتها الفكرية والتربية والاجتماعية المتواصلة، وأية غفلة عن هذا التحدي ستضرب الحركة والمجتمع معا في العمق..
تحدي المحافظة على مكاسب المجتمع، المجتمع حقق مكاسب فكرية وتربوية واجتماعية وسياسية معتبرة يجب حمايتها وتدعيمها.
تحدي التشرذم التنافري للحركة، فالحركة الإسلامية لم تنجح بعد في التأسيس للتنوع التكاملي، وتوطنت فيها بعض أمراض التشرذم التنافري. وقد زاد المنطق الحزبي المتخلف هذه الأمراض تفاقما في السنوات الأخيرة.
تحدي التشرذم التنافري للحراك السياسي الوطني، وهو تحدي يهم الحركة الإسلامية باعتبارها جزءا من هذا الحراك، لامتصاص شحناته السلبية، لصالح حراك وطني تكاملي نهضوي فعال.
تحدي الاستثمار البوليتيكي للصحوة:
فالصحوة تعاني من منطق الاستثمار البوليتيكي – ولا أقول السياسي لأن المنطق السياسي لم يتوطن بعد – الذي يجعل منها وسيلة انتخابية عابرة، وفرصة وظيفية آنية، وأداة لتصفية الحسابات وتسوية الأوضاع الخاصة، لا غير.
تحدي الانقلابية الطفرية المتناقضة في مسيرة الصحوة: فالحركة تعاني من اهتزاز رؤيتها لفلسفة التغيير والإصلاح والتجديد الاجتماعي والحضاري، ولم توطن نفسها بعد على وعي سنني مكين يضع يديها على مفاتيح سنن الدعوة والبناء، لذلك فهي تعاني وستظل تعاني من الانقلابية الطفرية المتواصلة! تنقلب بلا مبررات سننية من مفهوم التربية والدعوة إلى مفهوم السياسة والدولة، ومن مفهوم ومنطق المغالبةالسياسية إلى مفهوم ومنطق المواجهة العنيفة، ومن مفهوم ومنطق المعارضة النقدية الجادة إلى مفهوم ومنطق المسايرة أو المشاركة الاندماجية المبرِّرة، ثم من مفهوم ومنطق الدعوة المستقلة المرشِّدة إلى مفهوم ومنطق الطريقة المنكفئة على نفسها أو المنخرطة في الدروشة وتزييف الوعي، أو مفهوم ومنطق النقلية الحرفية المعطلة، أو المنخرطة بدورها في تزييف الوعي وتعطيل جهد التغيير والبناء.. وهكذا دواليك تقفز من موقع إلى آخر، ومن محطة إلى أخرى، دون ضابط أو مبرر معتبر، ومنطق القفز العشوائي لا يمكنه أن ينجز تغييرا أو إصلاحا أو تجديدا أو نهضة حقيقية !
لو سمحتم، هذه قضية مهمة وخطيرة ، تحتاج إلى المزيد من التجلية؟
الدكتور الطيب برغوث /نعم هي قضية مهمة كبقية القضايا الأخرى التي ذكرت والتي سأذكر عناوينها الرئيسة لاحقا. فرفع العناوين الكبرى دون الوعي بمضامينها الفكرية والاجتماعية الصحيحة، ودون الانتباه إلى
شروط تجسيدها في واقع حامليها أولا ثم في واقع المجتمع ثانيا، يشكل خطرا كبيرا عليها. وأعتقد بأن الحركة الإسلامية بكل فصائلها وتياراتها،
قد لحقها ضرر بالغ من جراء الغفلة عن النظرة الواقعية للإسلام ولنفسها ولمحيطها الداخلي والخارجي. ومن أجل هذا كتبت كتابي: «الواقعية في الدعوة إلى الإسلام » منذ أكثر من 30 سنة خلت، لأستبق الأحداث وأحذر من مغبة المبالغة في التفاؤل، والمبالغة في الاستهانة بالتحديات واستسهال أمرها! وقد بنيته على قاعدة رائعة
في التغيير الاجتماعي، وجهها أحد العلماء إلى هارون الرشيد على ما أذكر، قال له فيها: «لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها .»
ومع الأسف صنف هذا التوجيه الاستشرافي في حينه وبعد ذلك، من قبل فئات كثيرة في الحركة الإسلامية، في خانة التوجيه المثبط بل والجبان، ولم يفق أصحاب هذه الأطروحات إلا على وقع محنة رهيبة تضرب الصحوة والحركة والمجتمع والدولة والأمة في العمق، لينكص الكثير على عقبيه في دوامات الواقعية التبريرية المميعة !
فإنا لله وإنا إليه راجعون !
بالمناسبة أين تضعون كتابكم الجامعي الذي صدر سنة 1996 عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، عن «منهج حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها » والذي أعيد نشره مؤخرا فقط في الجزائر ؟
الدكتور الطيب برغوث / هذا الكتاب هو امتداد للتوجيه الاستشرافي الذي طبع جل كتبي التي أصدرتها في الجزائر منذ بداية الثمانينات، مساهمة مني في ترشيد مسيرة الصحوة الاجتماعية المباركة للمجتمع الجزائري. وبالمناسبة فإن الكتاب شرعت في كتابته منذ 1989 ، ودعني أذكر لك مثالا واحدا تكرر معي في السنوات الأخيرة، وهو أن بعض الجزائريين الذين يمرون على البلد الذي أقيم فيه، ويطلعون على بعض كتبي ومنها بالخصوص:
«القدوة الإسلامية » و «الواقعية في الدعوة إلى الإسلام » و «الدعوة الإسلامية والمعادلة الاجتماعية » و «التغيير الإسلامي .. » فيقولون لي: «لو استوعب الناس ما قلته منذ 10 سنوات قبل المحنة الوطنية لما دخلت الحركة الإسلامية والجزائر في هذه المصيبة الكبرى » ! مع أن بعضهم كان قد قرأ بعض هذه الكتب أو كلها قبل ذلك !!
و هل حققت حركة الصحوة مكاسب ما في نظركم؟ وما هي هذه المكاسب إن وجدت ؟
الدكتور الطيب برغوث / إن خصوم الصحوة الاجتماعية «الإسلامية » يعملون على تغييب هذه المكاسب عن وعي المجتمع والأمة والعالم، بل وعن وعي الصحوة نفسها، زرعا للإحباط وبثا للوهن في نفوس كل من يعمل على إنجاز التحول الحضاري المطلوب. ولتفاصيل أكثر أحيلكم إلى ما كتبته في ثلاثة كتب لي هي: «مكاشفات في التجربة والأزمة والنهضة » و «مفاصل في الوقاية الاستراتيجية لحركة الصحوة » و «حركة تجديد الأمة ومعضلات في الوعي والمنهج » المطبوعة في الجزائر ودول الخليج. ركزت فيها على أن حركة الصحوة الاجتماعية «الإسلامية » حققت مكاسب استراتيجية هامة، يجب الوعي بها، والجد في المحافظة عليها، والحرص المستمر على تعميق استثمارها. وأقررت فيها بأن الصحوة الاجتماعية المباركة التي شهدها المجتمع الجزائري منذ أواخر الستينات من القرن الماضي، تعد في رأيي أهم مكسب استراتيجي حققه المجتمع بعد الاستقلال، لأنه مكسب يتعلق بعمق وروح التنمية الحضارية للمجتمع، لو عرفت السلطة السياسية والنخبة الفكرية المرتبطة بها أهميتها وقدرت قيمتها الاستراتيجية، وعملت على وقايتها واستثمارها، لكانت الجزائر في قمة النجاحات على كافة الاصعدة.
ولكن البعض كان ولا يزال يرى بأنها كانت غمة وليست صحوة أمة ؟
الدكتور الطيب برغوث /هذا غير صحيح على الإطلاق، وأصحاب هذا الرأي لا حجة لهم .
كيف ذلك وقد تحولت الصحوة أو قطاعات واسعة منها إلى حركة إرهابية مميتة كما يرى هؤلاء ؟
الدكتور الطيب برغوث / أنا لا أعترف بإطلاق وصف الإرهاب على
الحركة الإسلامية إطلاقا، وأراه أمرا داخلا في تقنيات واستراتيجيات الصراع الفكري، الذي تستهدف حرمان المجتمع والأمة بل والعالم من بركات الصحوة الإسلامية المعاصرة ! وإذا كان ما يدعيه هؤلاء صحيحا فإن هؤلاء هم الذين كانوا وراء صناعة ذلك ! أصحاب هذا الفهم للصحوة، وهذا التقدير غير الصحيح لقيمتها، هم الذين دفعوا ببعض أفراد وتيارات الصحوة إلى الطرق المسدودة، وقطعوا عليها الرعاية الفكرية والتربوية والاجتماعية والسياسية، واضطروها بسياساتهم الأمنية والأحادية والعلمانية المائعة، منذ بدايات الاستقلال، إلى انتهاج أساليب التخفي والانفتاح السري على الخبرات الحركية الخارجية، بكل ما في ذلك من نواقص وأخطار، ظهرت للعيان بعد ذلك في الفوضى الفكرية التي شهدتها الساحة الثقافية والدعوية الوطنية .
إن سياسة إلغاء «التعليم الأصلي »، مثلا، منذ عهد المرحوم أستاذنا الوزير مولود قاسم، وتعطيل مشروع «التعليم العالي الشرعي »، ومحاصرة الدعاة والمربين الأصلاء، وتأميم وزارة الشئون الدينية، وتأميم الأوقاف الإسلامية، وتعطيل الدور العلمي والتربوي والاجتماعي للزوايا، والتحسس الدائم من الروح الإسلامية ومن اللغة القرآنية في المنظومة التربوية، وإيقاف «مؤسسة ملتقيات الفكر الإسلامي » التي يعود فيها الفضل ليس فقط للمفكر العبقري المرحوم مالك بن نبي بل لبعض طلابه أمثال استاذنا الكبير عبد الوهاب حمودة و غيره .. إلى ما هنالك من السياسات المتخبطة، هي التي حرمت الصحوة من سندها المعرفي والثقافي والتربوي والاجتماعي والسياسي الوقائي، والشروع في تعميم المحنة على أكبر قدر ممكن من الفئات والشرائح الاجتماعية، ورفضها كل النداءات والمبادرات الداعية إلى المصالحة الوطنية.
ولكن هناك من يرى بأن الإسلام السياسي خاصة والإسلام الحضاري عامة في تراجع وانكماش بعد التجارب الفاشلة للحركة الإسلامية في عالمنا العربي ؟
الدكتور الطيب برغوث / إن الفشل المرحلي لتجارب الأفراد والجماعات والحركات وحتى الدول.. لا يعني أبدا فشل الإسلام الحضاري، وفيه طبعا البعد
السياسي، بل يعني فشل تلك المحاولات تحديدا، أما حركة الإسلام الحضاري فهي في تقدم مطرد على كل المستويات، وهي تزداد خبرة ورشدا وصلابة وتأصلا وفعالية مع مرور الوقت بحول الله وعونه.
بالمناسبة، ما ذا تقصدون بحركة الإسلام الحضاري؟
الدكتور الطيب برغوث / أقصد بذلك، الإسلام في حقيقته الشمولية التكاملية المتوازنة، التي تغطي وتستوعب؛ بالتوعية والتربية والتنمية الواقعية المتدرجة، كل مناحي الحياة الإنسانية؛ الفكرية والروحية والسلوكية والثقافية والاجتماعية
والسياسية والاقتصادية.. دفعا بحركة المجتمعوالأمة والإنسانية إلى آفاق العالمية والإنسانية التي يضعها الإسلام كهدف مركزي للحضارة الإسلامية في الأرض. لهذا فإن الإسلام الحضاري يرفض التجزيئية والانتقائية والتنافرية، التي تتأسس عليها العلمانية التاريخية، والقومية أو الوطنية العنصرية التلفيقية .
معنى هذا أنه على الحركة أن ترفض وصاية التاريخ عليها ؟
الدكتور الطيب برغوث / منطق «نظرية التدافع والتجديد » التي تقوم عليها حركة التداول الحضاري البشري، يرفض وصاية الماضي على الحضاري. ماضينا نحن وماضي غيرنا معا! فالوصاية علينا لا تكون إلا لثوابت الهوية ورشد الخبرة السننية الذاتية والإنسانية فقط. كما أن الوصاية يجب بعد ذلك أن تكون للحاضر على الماضي، وللمستقبل على الحاضر. هكذا تمضي حركة الحياة في اتجاهها التصاعدي البناء، وأي قلب لمعطيات هذه المعادلات السننية، سيؤدي حتما إلى انقلاب في مسار تطور المجتمع ونهضته .. والتجارب المتنوعة التي خاضتها الحركة الإسلامية منذ البدايات المبكرة للاستقلال الوطني، والتي تنوعت وتعمقت في
العقدين الأخيرين بالخصوص، قد منحت الحركة وعيا أكثر عمقا سيكون له ما بعده، خاصة إذا استطاعت أن تراجع نفسها بموضوعية وجدية، وأن تدرك أخطاءها ونواقصها، وأن تجتهد في تصحيحها وتجاوزها بكل صرامة.
إلى أي حد تتسق هذه النتيجة مع ما أشرتم إليه من قبل من نقد لما أسميتموه عمليات المسايرة والمشاركة والمباركة التي انتهجتها بعض تيارات الحركة الإسلامية ؟
الدكتور الطيب برغوث /بداية أقول، أنني لا أنتقد الجوانب الإيجابية في هذه العمليات الهامة، ولكني أنتقد الجوانب السلبية غير الضرورية التي تضر بها وتضر بمجمل أداء الحركة وموقف المجتمع منها.
فأحيانا تتطور بعض فعاليات الحركة لتعطي ما هو غير مطلوب منها، ويستعجل بعضها الآخر فيتخذ مواقف مسايرة أو مؤازرة أو مشاركة أو مباينة..غير ناضجة تضر بنفسها وبمجمل مسار الحركة وسمعتها التاريخية.. رغم ذلك فقد نجحت الحركة الاجتماعية الإسلامية من جعل الإسلام وصحوته الحضارية قضية عالمية، في الإعلام العالمي، وفي السياسة وفي الفكر والثقافة العالميين، وفي الاهتمام الاجتماعي اليومي لفئات كبيرة في العالم، وهو مخاض سيكون له ما بعده. سواء على مستوى شحذ الوعي الذاتي للصحوة، وترقية أدائها الاجتماعي والحضاري، أو على مستوى تصحيح موقف الآخرين منها، وتحسين تعاطيهم معها.
من الظواهر السلبية التي يمكن ذكرها هنا كمثال التردد والاضطراب الذي ما يزال يطبع الخطاب الإسلامي، خاصة أمام امتحان الإسلام والديموقراطية، بمعنى أن الإسلاميين لم يتمكنوا بعد من التوفيق بين هذا وذاك ! ؟
الدكتور الطيب برغوث /هذه جزئية من الجزئيات الكثيرة..
والإسلام يندب إلى الأخذ بالخبرة الإنسانية وقد يوجب ذلك، وخاصة إذا كانت هذه الخبرة ذات عمق أو نفس سنني. لذلك أرى بأن قضية الديمقراطية أو غيرها من قضايا الخبرة البشرية المختلفة،
يجب أن تُحل في وعي المسلم ابتداء، بعيدا عن أي استلاب تراثي أو حداثي أو عشائري..
ثم أن التجربة الديمقراطية التي تُعرض في البلاد الإسلامية، لم تعرض بطريقة صحيحة، شوهت روح الديمقراطية ومقاصدها التي تعطي الحق للمجتمع في اختيار حكامه، واختيار النموذج الاجتماعي الذي يعبر عن عمق هويته، ويجسد عمق طموحه وتطلعه إلى الحياة الكريمة الشريفة، وحق نصح هؤلاء الحاكمين ومحاسبتهم، وعزلهم أو التشبث بهم، إلىما هنالك من الحريات والضمانات الفكرية والسياسية والاجتماعية المتضمنة في روح الديمقراطية.
ثم أن العديد من تيارات الحركة تخلط أحيانا بين البعد الفكري الثقافي الغربي للديمقراطية، وبين البعد الفني أو الآلياتي الإجرائي فيها، وتستغرق في منطق التعميم، ولا تحاول الفصل بين الأمرين في عملية الاستفادة من الخبرة البشرية الناجحة، ولو جزئيا، مع أنها تقرأ في القرآن وفي السنة وفي السيرة النبوية وفي الخبرة التاريخية للأمة، أن هناك كفرا دون كفر، وشركا دون شرك، وأن وسائل تنظيم العمران البشري متغيرة، وأن المجتمعات البشرية يفيد بعضها من خبرة بعض بشكل دائم. ومن هذا المنطلق فإن الديمقراطية كآليات فنية في إدارة الشأن السياسي خاصة والشأن الاجتماعي عامة، من الأمور المباحة التي يندب الأخذ بها، باعتبارها أفضل ما توصلت إليه الخبرة البشرية في حل معضلة التداول على السلطة وإدارة الشأن الاجتماعي العام.
استخلص من كلامكم أن الخبرة الديمقراطية لا تتعارض مع روح الإسلام ومقاصده في حفظ كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية المرتبطة بذلك ؟
الدكتور الطيب برغوث / بكل تأكيد.. وأنا لا أفهم مبررات بعض الأطروحات التي تصر على أخذ المذهب الديمقراطي جملة، كما نرى ذلك في الدعوات
الحداثية المستلبة! أو رفضه جملة، كما نرى ذلك في بعض الاتجاهات داخل الحركة الإسلامية!
فالمشكلة إذن في الوعي الإسلامي، أي في وعي المسلم تحديدا، وليست في الإسلام المنفتح بطبعه على كل رشد ونضج في الخبرة البشرية، بغض النظر عن مصدرها. لذلك ينبغي علينا أن نحتاط كثيرا من الأحكام والمواقف الجزافية التي نحمِّل فيها الإسلام ما لا يحتمل، ونعيق شروط معاصرته وفعاليته، ونقدمه لأجيالنا وللأجيال البشرية المعاصرة على أنه خصم للعقلانية والعلمية والإبداعية والتكاملية الحضارية !
سؤال أخير، سماحة الشيخ، أعلم أني أرهقتكم طيلة ساعات، لو خرجنا من وضع الصحوة، لنتكلم عن التغيير الحاصل حاليا في العالم العربي و الاسلامي في تونس و مصر و اليمن و ليبيا و غيرها … ما حظ الشعوب و الحركات الاسلامية من ذلك، و كيف تقوّم النجاح الباهر لفوز القوائم الاسلامية؟
الدكتور الطيب برغوث / معذرة ، معذرة، هذا أمر مهم للغاية و يحتاج إلى وقت أكبر… سيكون الجزء الثاني من الحوار بيننا لما تزورنا مرة أخرى، فقضية الربيع العربي، والتغيير المنشود، هل هو زوبعة في فنجان مفبركة من طرف قوى غربية، كما يحلو لبعض الناس وصفه، أم تغيير يحتاج إلى دعم و صيانة ورعاية، و كلام طويل، يحتاج لوقت أطول…
لا يخفى عليك أننا نظمنا عدة ندوات حول هذا الموضوع تحديدا في «منتدى الدراسات الحضارية السننية » منذ أشهر طويلة وخرجنا بتوصيات غاية في الأهمية، يمكنك الرجوع إليها. ونحن هذه الاشهر منهمكون في تنظيم ندوتين الأولى بعنوان: «الثورة الجزائرية ومشروع النهضة » المجهضة: قراءة في عظمة الإنجاز وإشكلات المآل «والثانية بعنوان: «مالك بن نبي ونموذج المفكر الرسالي .»
الاولى بمناسبة الذكرى 57 للثورة الجزائرية الكبرى، والاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال، مساهمة في تقييم مسيرة النهضة الوطنية، واستخلاص دروس الخطأ والصواب، وتجديد شروط أصالتها الفكرية والروحية، وتحقيق فعاليتها الاجتماعية، وضمان تكامليتها الحضارية، وتأمينها من تكرار الخطايا الاستراتيجية السابقة.
و الثانية بمناسبة الذكرى 38 لوفاة المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله، الذي اقترنت وفاته بليلة الفاتح من نوفمبر أي يوم 31 أكتوبر
1973 ، والذي كرس كل فكره وحياته للبحث عن شروط نهضة المجتمع الجزائري.
في الختام من جهتي أشكر »البصائر » التنويرية الغراء و الشكر موصول لطاقمها الواعد وعلى رأسهم أستاذنا الكبير أخونا الدكتور عبد الرزاق قسوم، حفظه الله …وأثاب الله سعيكم.
حاوره : محمد مصطفى حابس
http://www1.albassair.org

الاثنين 15 – 21 ذو القعدة 1433 ه / 01 – 07 أكتوبر 2012 العدد: 6

Exit mobile version