مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أحداث وطنية ومحلية

المدرسة وبناء الإنسان / الدكتور مسعود فلوسي

بمناسبة انطلاق السنة الدراسية الجديدة، والتحاق ملايين التلاميذ بمختلف المؤسسات التعليمية والتربوية، يجدر بنا أن نولي هذا الحدث ما يستحقه من تنويه واهتمام، ذلك أن الأمر لا يتعلق بحدث عادي عابر، وإنما يتعلق بحدث ذي أهمية خاصة في حياة كل تلميذ وفي حياة كل أسرة، وفي حياة المجتمع كله بصفة عامة.

اهتمام الأمم ببناء المدارس

تهتم الأمم المختلفة ببناء المدارس وتشييد المؤسسات التربوية والتعليمية وتقريبها من التلاميذ والطلاب وتيسير التحاقهم بها ووصولهم إليها واستفادتهم منها، وذلك انطلاقا من الشعور بأهمية المدرسة في حياة الإنسان، وإدراكا للوظائف التي تؤديها والتي لا يمكن أن تنوب عنها في أدائها أي مؤسسة أخرى.

ولذلك لا يوجد بلد في العالم تخلو حكومته من وزارة للتربية والتعليم، تتولى إقامة المدارس والإشراف على تسييرها ومتابعة عملها وتعيين المعلمين والمديرين لها ومراقبة مدى قيامهم بمهامهم وتحقيقهم للنتائج المطلوبة منهم.

وتحرص الحكومات المختلفة في العالم كذلك على استقرار قطاع التربية والتعليم وانتظام سيره وعدم تعرضه للاهتزازات والاضطرابات، حتى لا تختل وظائفه ويفشل في تحقيق الأهداف المنتظرة منه.

بناء الإنسان وظيفة المدرسة

إن الوظيفة المحورية التي لأجلها تقام المدارس وتبنى المؤسسات التربوية والتعليمية هي بناء الإنسان بتدرج وعبر مراحل مختلفة، مع مراعاة خصائصه النفسية وعمره وتكيفه الاجتماعي في كل مرحلة.

ولذلك يقسم النظام التعليمي إلى مراحل متدرجة، تبدأ بالمرحلة الابتدائية، ثم المتوسطة أو الإعدادية، ثم الثانوية، وأخيرا المرحلة الجامعية التي قد لا يتسنى الالتحاق بها لكل طالب.

وتعتبر المراحل الثلاثة الأولى ضرورية في حياة كل تلميذ، وبصفة أكثر تأكيدا المرحلتان الأولى والثانية، اللتان أدمجتا في بعض الفترات تحت مسمى التعليم الأساسي.

وبناء الإنسان أصعب وأعسر وأعقد من بناء أي شيء آخر، لأن التعامل هنا لا يكون مع أشياء مادية يمكن تشكيلها وصهرها مع بعضها واستعمالها في إنتاج شيء ما، وإنما التعامل مع بشر ذي جسد وروح وخصائص نفسية وبدنية وأسرية واجتماعية تختلف من شخص إلى آخر، ووظيفة المدرسة أن تشكل شخصية هذا الكائن وتبني نفسه وترقي روحه وتعمل على تكيفه مع بني جنسه وتعلمه المهارات التي يحتاجها في مسيرة حياته.

وتؤدي المدرسة هذه المهمة من خلال مجموعة من العمليات التي تقوم بها، والمتمثلة في: التعليم والتلقين، التربية والتهذيب، التكوين والضبط الاجتماعي.

التعليم والتلقين

إن المدرسة بما يتوفر لها من إمكانات وما تهيئه من جو مناسب، تتولى مهمة تعليم التلميذ ما هو ضروري أن يعرفه و يدركه من حقائق الكون والحياة وما يحيط به من أشياء، وكذا ما يجب أن يتعلمه من مهارات مما يحتاج إلى استعماله في حياته الشخصية أو في علاقاته بأسرته ومجتمعه.

فعلى مقعد المدرسة يكتسب التلميذ اللغة السليمة ويتعلم القراءة والكتابة، حتى يمهر فيهما.

وفي المدرسة يلقن الإنسان الحقائق الكبرى للوجود، سواء ما يتعلق منها بعالم الغيب أو تلك المتعلقة بعالم الشهادة.

وفي المدرسة يتعلم المبادئ العلمية الضرورية التي يحتاج إليها في حياته، مثل تلك المتعلقة بالحساب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك وغيرها.

وفي المدرسة يتعلم خصائص الأشياء وكيفية استعمالها، ويعرف وظائف كل منها وما تصلح له وما لا تصلح، وما إلى ذلك.

والمدرسة هي التي تلقن التلميذ تاريخ أمته والأطوار التي مرت بها، وتغرس في نفسه حب الوطن والانتماء إليه والافتخار به والشعور بواجب الدفاع عنه.

هذه الأمور كلها لا يمكن للإنسان أن يتعلمها ويكتسب المعرفة بها إلا في المدرسة، لأنها لا يمكن أن تتوفر له في أي مكان آخر.

التربية والتهذيب

وكما تهيئ المدرسة للتلميذ وسائل التعلم والإدراك، توفر له كذلك جو التربية والتهذيب، فالطفل في البيت قد لا يجد الضبط الكافي الذي يجعل نفسه تتربى وسلوكه يتهذب، وذلك بحكم معزته عند أبويه وحرصهما على إرضائه وتحقيق رغباته. بينما تحرص المدرسة على تربية التلميذ وتعويده على الأخلاق الفاضلة من صدق وإيثار وإحسان وتعاون مع الآخرين وتوقير للكبار ورحمة بالضعفاء، كما تعمل على تهذيبه وتخليصه من الخصال السيئة من كذب وأثرة وأنانية وقسوة، وذلك من خلال ما يلقن له من مبادئ وما يعرض عليه من نماذج لذوي الأخلاق الحسنة وما تحقق لهم من خير في حياتهم، وكذا ما يبرز أمامه من نماذج لذوي الأخلاق السيئة وما جنوه من شر على أنفسهم وعلى أسرهم وعلى مجتمعهم.

إن هذا التهذيب ضروري للإنسان، لأنه بدونه ينحرف سلوكه ويصبح العنف هو الطابع العام الذي يصبغ حياته، وإذا كثر ذلك في الناس تصبح الحياة صعبة وعسيرة، وتكون أقرب إلى حياة الوحوش منها إلى الحياة البشرية.

التكوين والضبط الاجتماعي

والمدرسة كذلك هي الكفيلة بتحقيق التكيف الاجتماعي للتلميذ، حيث توفر له فرصة التعامل مع أصناف مختلفة من الناس، مديرا ومعلمين وزملاء وعمال، وكل هؤلاء لابد أن يعامل كل واحد منهم معاملة خاصة تتناسب مع دوره في المدرسة، وبالتدريب والمران والتعامل المستمر يتكيف التلميذ ويكتسب مهارات التعامل مع الناس بصفة عامة.

ومن الملاحظ أنه كلما تقدم التلميذ وترقى في مراحل التعليم، كلما كان أكثر مرونة وأقدر على التكيف الاجتماعي.

إن المدرسة هي التي تكون الإنسان على الإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، والتسامح مع الناس، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، والصبر على الأذى، وإيثار الغير، ومساعدة الفقير، وإطعام المسكين، وطاعة أولياء الأمور، واحترام كل مسؤول في موقع مسؤوليته، والمحافظة على الممتلكات العامة، والحرص على نظافة البيئة وسلامة مكوناتها، وغير ذلك مما هو ضروري في التكوين الاجتماعي للإنسان.

وهذه القيم والمبادئ يتكون عليها التلميذ أولا في علاقته مع محيطه المدرسي، وبالتعود عليها تصبح سلوكا له في بيته وفي الحي الذي يعيش فيه، ومع بني مجتمعه الذين يتبادل معهم العلاقات والمعاملات.

نظام التعليم ومقومات المجتمع

إن أي مدرسة، مهما كان مستواها ومرتبتها في الهرم التعليمي، لا يمكنها أن تحقق الوظائف المنوطة بها، إلا إذا روعي في النظام التعليمي والتربوي الذي يوضع لها وتلتزم بتنفيذه وتطبيقه؛ أن يكون متفقا مع قيم المجتمع ومبادئه وتاريخه وتركيبته البشرية، وذلك حتى لا يقع التناقض بين ما يتلقاه التلميذ في بيته ومجتمعه من جهة وبين ما يتلقاه في مدرسته من جهة ثانية. لأن هذا التناقض إن وجد، فإنه يكون كفيلا بتقويض النظام التعليمي برمته، حيث تختل العملية التعليمية والتربوية وتتعرض للاهتزاز في نفوس التلاميذ عندما يجدون أن ما يتلقونه في المدرسة يتعارض مع ما يلقنه لهم آباؤهم وما يشاهدون عليه الناس في مجتمعهم، وحينئذ سيسايرون التعليم باعتباره أمرا مفروضا عليهم، مع رفضهم له في قرارة نفوسهم وحرصهم على عدم التأثر به، بل والتخلص منه عند أول فرصة تسنح لذلك.

إن مشكلة التسرب المدرسي وظهور النزعات الرافضة للالتحاق بالمدارس، والتي تعاني منها بعض المجتمعات، وخاصة منها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة؛ هي في بعض جوانبها نتيجة لهذا التناقض الصارخ بين ما يتربى عليه التلميذ في البيت وما ينشئه عليه المجتمع من جهة ومما يلقن له في المدرسة من جهة ثانية. ذلك أن هذه المجتمعات لها قيم ومبادئ درجت عليها وتمسكت بها، بينما النظم التعليمية المفروضة على أبنائها تنطوي على توجهات إيديولوجية مناقضة لتلك القيم والمبادئ ومتعارضة معها.

وذلك سر فشل هذه النظم التعليمية في بناء الإنسان وتهذيب سلوكه وتشكيل نفسيته وتحفيز إمكاناته وضبط توجهاته.

وإنه لمؤسف أن تُصرف الأموال الطائلة وتوفر الإمكانات الهائلة وتبذل الجهود الجبارة في كل عام، ثم لا تكاد العملية التعليمية تنتج شيئا مما يرجوه المجتمع منها، وذلك بسبب عدم مراعاة تطابق نظام التربية والتعليم المفروض على المدارس مع قيم المجتمع ومبادئه وتاريخه وأعرافه وتقاليده.

ولا شك أن هذه مسؤولية القائمين على وزارات التربية والتعليم في العالم العربي والإسلامي الذين يتصورون أن استيراد النظم التعليمية كما هي بروحها وشكلها هو الكفيل بتقدم المجتمعات العربية والإسلامية وخروجها من حالة التخلف، في حين أن فرض هذه النظم كما هي دون تعديل أو مراعاة تطابقها مع مبادئ مجتمعاتنا هو السبب الأساس في استمرار حالة التخلف التي نعاني منها من عقود طويلة. وهذه هي المعضلة الكبرى التي لا يريد هؤلاء المسؤولون أن يفهموها، أو يفهمونها ولكنهم يتجاهلونها.

دعوة إلى الإصلاح

إن المراقب لأحوال مؤسساتنا التعليمية من مدارس ومتوسطات وثانويات وجامعات، يفزعه ولا شك ما تعانيه من أوضاع متردية، أدت إلى تراجع كبير في أداء هذه المؤسسات وفي قيامها بالوظائف المنوطة بها وفي تحقيقها للأهداف التي أقيمت لأجلها.

صحيح أن بلادنا حققت تقدما كبيرا في بناء المؤسسات التعليمية وتقريبها من التلاميذ والطلاب، مما تحسده عليه بلدان أخرى، إلا أن ذلك كان على مستوى الهياكل والوسائل المادية، دون الروح والجوهر. والسبب هو التجارب المستوردة المتعددة التي فرضت على نظام التربية والتعليم عندنا، والتي أضرت أكثر مما نفعت، وجعلت المدارس تفقد أهميتها وتتحول إلى مجرد بنايات تجمع التلاميذ لمدة معينة من الزمن لتطلق سراحهم بعد ذلك ليلتحقوا ببيوتهم، ومنها إلى الشوارع بعد ذلك حيث يكتسبون التوجهات المنحرفة والعلاقات الضارة.

لقد طغت الجوانب الشكلية على نظام التربية والتعليم، وأصبحت كثافة المواد وكثرة الكتب والكراريس والأدوات والحرص على تلقين التلاميذ أكبر كم من المعلومات والانتهاء من المقررات والاهتمام بملء الأوراق ورصد النتائج وإعداد الإحصائيات هو الهدف الأساس، بينما تراجع كل من التربية والتعليم إلى مرتبة متأخرة ولم يعودا هما الهدف الأساس، مع أنهما الأصل وغيرهما مجرد فرع. والنتائج العملية في الواقع خير برهان على ذلك.

إن هذا الوضع يستدعي مراجعة السياسة العامة في مجال التربية والتعليم، وضبط الأهداف ووضع الخطط والبرامج، والتي يجب أن تكون كلها متوافقة مع روح مجتمعنا وقيمه والمبادئ التي يعتنقها، ومن دون ذلك سيظل الأمر يراوح مكانه، والوضع يزداد سوءا عاما بعد آخر.

نرجو أن يهتم أولو الأمر في بلادنا بهذا الموضوع، ويحرصوا على اتخاذ القرارات الضرورية الكفيلة بإصلاح نظام التعليم والتربية، وهو نظام يعرف الجميع أهميته وحسياسته والدور الذي يؤديه في حياة المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى