مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
بحوث و دراسات

الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بقلم الشيخ محمد الغزالي

هذا المقال  كتبه الشيخ محمد الغزالي عن الإمام الإبراهيمي في مجلة الثقافة الجزائرية، عدد 87، مايو- يونيو 1985. فرحم الله الكاتب والمكتوب عنه.
كانت القاهرة- لأكثر من ثلث قرن مضى- ملتقى عدد من المجاهدين الكبار يجيئون إليها في ظل عقيدة جامعة، وأخوة وثيقة، ولغة مشتركة، وآمال واحدة.
وكان المسلمون ينظرون إلى الزعماء القادمين نظرة حب جارف وإعزاز بالغ، كانوا يرون النظر في وجوههم عبادة، والحديث معهم والأنس بهم قربى إلى الله.
أذكر من هؤلاء الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر، وقائد جهادها الأول، زارني يومًا في وزارة الأوقاف- وكنت مسؤولاً عن المساجد- فزكَّى بعض المشروعات التي أقوم بها، ورسم لي طريق إنجاحها، وشعرت كأنه يعد نفسه مسؤولًا عن مستقبل الإسلام في مصر، فهو يهتم به اهتمامي أنا به أو أكثر، ولا عجب فدار الإسلام واحدة وإن اختلفت منابت الأفراد ….
وأذكر من أولئك الزعماء اللاجئين إلى القاهرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. عرفته، أو تعرفت إليه، في أعقاب محاضرة بالمركز العام للإخوان المسلمين … كان لكلماته دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزًا في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رُزِق بيانًا ساحرًا، وتأنقًا في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها.
لكن هذا ليس ما ربطنا به أو شدَّنا إليه- على قيمته المعنوية- إنما جذبنا الرجل بإيمانه العميق، وحزنه الظاهر على حاضر المسلمين، وغيظه المتفجر ضد الاستعمار، ورغبته  الشديدة في إيقاظ المسلمين ليحموا أوطانهم ويستنقذوا أمجادهم، وخُيّل لي أنه يحمل في فؤاده آلام الجزائريين كلهم وهم يكافحون الاستعمار الفرنسي، ويقدمون المغارم سيلًا لا ينقطع حتى يحرروا أرضهم من الغاصبين الطغاة، وكان في خِطاباتِهِ يزأر كأنه أسد جريح، فكان ينتزع الوَجَل من أفئدة الهيابين ويُهيّج في نفوسهم الحمية لله ورسوله، فعرفت قيمة الأثر الذي يقول: “إن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء”.
إن الخطيب أو الكاتب يوم يستمد توجيهاته من قلبه ويصبها في نفوس تلامذته إنما يُكوّنُ فيالق من أولي الفداء، ويصنع قذائف حية من رجال ينسفون الباطل نسفًا، وذلك ما أحسسناه ونحن نستمع إلى الشيخ البشير الإبراهيمي في القاهرة، فعرفنا لماذا ضاق به الفرنسيون وطاردوه، ومن ثَمَّ قررنا الالتفاف به والاستمداد منه.
ومن الخطإ تصوُّرُ أن الشيخ الكبير كان خطيبًا ثائرًا وحسب … لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة. ووقع لي معه حوار في مسألتين طريفتين. قال لي مرة: لعلك قرأت في السيرة الشريفة أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما كانوا ينصرفون عن مجلسه إلَّا على ذَوَاق- وزن جمال-.
قلت: نعم.
قال: فما الذواق الذي ينالونه في مجلسه؟
فتَرَيَّثْتُ قليلاً ثم أجبت: لعلهم كانوا يتناولون بعض الأطعمة أو الأشربة كما يقع في عصرنا هذا عندما تُقَدِّم للأضياف والوافدين أقداحًا من الشاي أو غيره …
قال لي: ظننتك أفضل من أن تجيب هذه الإجابة الساذجة، أذلك شيء ينوِّه به الأصحاب الكرام؟
قلت في تلهف: فما هذا الذواق الوارد في السنة؟
قال: إنه تذوق أرقى، ألا تذكر الحديث الشريف: «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا».
إن المجلس النبوي تظلله الحكمة، ومقام النبي فيه ترقيق القلوب، ورفع المستوى، وتخليص الروحانية من شوائب الأرض، وجعل البشر في مصاف الملإ الأعلى … فما ينصرف أحد عن هذا المجلس الزكي إلا وقد تذوق نازلًا من السماء، ولا يعود إلى أهله إلا بذخر يعليه ويعليهم.
الحق، ان هذا المعنى كان جديدًا علي، غير أني شعرت بأنه الحق، وأنه أولى كثيرًا من تفسير الذواق بأنه طعام أو شراب …
وسألني مرة: ما تقول في هذه الذبائح التي تملأ ساحات مِنًى، يتحلل بها الحجاج والعامرون من مناسكهم؟ فلم أدر ما أقول، كل ما استطعت أن أجيب به أنها من شعائر الحج والعمرة قربة إلى الله وطعمة للفقراء، وفي الآية {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ ائأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ائبَائِسَ ائفَقِيرَ}.
قال: ليت الحجيج يحققون هذه الغاية فيأكلون ويتصدقون ويفرح بصنيعهم البائسون الفقراء، إنهم يذبحون ويدعون ذبائحهم على الثرى لا يقربها إنس ولا وحش، فتضيع سدى، وقد نُهينا عن إضاعة المال. حبذا لو وضعت خطة للإفادة من هذا الخير المبذول وتعميم النفع به …
وما تمناه الشيخ البشير الإبراهيمي نفذ بعد ثُلُث قرن، فقد عرفت الآن أن ما يذبح يكون بقدر حاجة الفقراء، والباقي يوجه لسد ثغرات الجوع، والجفاف في أماكن أخرى … وهذا هو الفقه الصحيح وحسن التصرف في تنفيذ أحكام الشرع الشريف.
كان لقاؤنا بالشيخ البشير الإبراهيمي مصدر متعة أدبية وعلمية تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه، ولكن الرجل كان يشرد بين الحين والحين، فنحس أنه معنا وليس معنا، كان جسمه معنا وقلبه معلقًا بالجزائر يتحسس أبناءها، ويتبع العراك الدائر بين الإسلام والصليبية في هذه القطعة الغالية من دار الإسلام، وكنت أشعر بأنه يكتب إلى رجاله أو المسؤولين عن الكفاح الجزائري يشير عليهم بالرأي … وأستطيع الجزم بأنه ما ضعف يومًا ولا استكان ولا يئس من روح الله، ولا شك في أن الله ناصر جنده، ومعز المجاهدين المسلمين.
وهناك أمر لا يعرفه الكثيرون، لقد حاول أن يسد الفجوة بين جماعة الإخوان ورجال الثورة المصرية، فإن الفريقين يقدرونه ويصغون إلى نصحه، ولكن الشر كان قد تفاقم بين الفريقين وعزَّ على العلاج، فتوقف محزونًا.
وظل الشيخ البشير، ومعه بعض الجزائريين يرتبون الأمور بين القاهرة الموالية للمجاهدين، وبين أرض المعركة التي احتدم فيها القتال وتضاعف الشهداء، ولا أنسى من بين أصحاب الشيخ الأخ الفضيل الورتلاني الذي زاملني في الدراسة وأنا في تخصص الدعوة والإرشاد قبل مجيء الإبراهيمي ببضع سنين، وكان الشيخ الفضيل عملاقًا في مبناه ومعناه ورجلًا له وزنه، وكان يتبع الشيخ البشير على أنه تلميذ وفي له، ويتعاونان على نصرة القضية الجزائرية بكل ما لديهما من طاقة …
قال لي الشيخ البشير: إنكم بليتم بالاستعمار مثل ما بلينا، وشعرتم بضراوته مثل ما شعرنا، لكنكم لا تعرفون أن ما أصابنا نوع شاذ من الاستعمار يشبه السرطان من بين أنواع العلل المهلكة، إنه كان يريد محو شخصيتنا وعقيدتنا ولغتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومن المستحيل الإبقاء عليه أو البقاء معه. إن معنى ذلك الموت الخسيس، وأولى بنا أن نموت جميعًا في ميادين الكفاح والتضحية من أن نموت على هذا النحو الذي يراد لنا …
والجزائري إذا غضب تحول إلى شخص آخر، وقد كنت ألمح تغيرًا عضويًا في وجهه بل في كِيانِه كله عندما يتحدث عن ضرورة الجهاد إلى آخر رمق وعن ضرورة بقاء الجزائر مسلمة تتكلم بلغة الوحي وتحل العربية محل الفرنسية. (وها قد نصر الله الجزائر، ونضر وجوه المجاهدين وعاد الدخيل من حيث جاء، واندحر أتباعه وأعوانه).
فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم … كباطل من خلال الحق منهزم
ومعرفتي بالشيخ البشير الإبراهيمي تجعلني أتساءل عن حدود الوفاء للقيم والمبادئ التي عاش من أجلها ومات في سبيلها؟.
إني أتخيله حيًا، وأتصور أنه يسمع رجلاً يرطن بالفرنسية، ما أحسبه يتركه دون تقريع وتعنيف بالغين. وله الحق في غضبه فإن الاستعمار العسكري ذَنَبٌ والاستعمار الثقافي هو الرأس، والحية لا تموت بقطع ذَنَبِها، بل الأمر كما قال الشاعر:
لَا تَقْطَعَنْ ذَنَبَ ائأَفْعَى وَتُرْسِلَهَا … إنْ كُنْتَ شَهْمًا فَأَتْبِعْ رَأْسَهَا الذَّنَبَا
وعلى الجزائر أن تحرر ثقافتها من التبعية كما حررت أرضها من الاستعمار، والخطوات البطيئة في هذا المضمار لا ترضي شهداءها الأبرار، بل البدار، ليتأكد الانتصار، وتتضاعف الثمار.
أثار الإمام البشير الإبراهيمي ج4

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى