ألا لحاك الله أيتها القبيلة / د.عبد الحفيظ بورديم
أتى على العرب حين من الدّهر كانوا في الصحراء أجلافا كالعير. معاشهم من فقر وآلهتهم من تمر، لا يفقهون للوجود قدرا، ولا يرجون من الحياة أجرا. منتهى الكمال عندهم قصيدة من شعر، ومنتهى المجد عندهم شربة خمر. تناثروا في البلاد تناثر الجراد، يبتغون كلأ وماء، ويهرقون لها الدماء.
كانت الجاهلية لهم ارتماء وكانت القبيلة لهم انتماء. منهم وبر وحضر وكنانة ومضر، ومنهم عبس وذبيان ومناذرة وغسّان، ومنهم بنو كلب وبنو أسد وبنو عنزة وبنو نهد، ومنهم تميم وجرهم وثقيف وخثعم، ومنهم اللهازم وباهلة والمعافر والكواهلة، ومنهم آخرون كثيرون، وكلّهم عن الحقّ معرضون. ولولا أفراد حكماء وعبّاد حنفاء لكانت العرب أذلّ من وتد وأذهب من زبد.
تفرّقوا إخوة أعداء وتقاتلوا خصوما ألدّاء، فاتخذهم الروم سِخريا واتخذهم الفرس سُخريا. وهم من أمر العرب يعجبون، أيكونون من نسل إسماعيل (عليه السلام) وهم وثنيون؟ أم يكونون أهل العربية وهم لا يفقهون؟
وما انكشفت عن العرب الغمّة إلاّ يوم صاروا بالإسلام أمّة، نبذوا مفاسد الرذيلة وتركوا عصبية القبيلة، فخرجوا من ضيق الصحراء إلى آفاق الأرض والسماء، ينشرون الرسالة ويقيمون العدالة. يومئذ زويت لهم المسالك ودانت لهم الدول والممالك، حتى لا دار إلا دار الإسلام، ولا تحيّة إلاّ تحية السلام. وفي ألف عام تآلفت قبائل العرب والعجم، وخضعت لهم كلّ الأمم. فقهوا أنّ الأمّة أبقى من القبيلة، وشهدوا أنّ العزّة موكولة بالفضيلة.
ولمّا دبّ في الجسم الوهن وتسرّب إلى الفهم العفن، ارتدّت أجيال لاحقة عن قيم الدين السامقة، وارتكس المسلمون إلى الوهدة بعدما انحلّت في النفوس عرى الوحدة. بدّلوا قولا غير الذي قيل لهم، فنزلوا من طهارة المسجد إلى جمرات الموقد. تركوا الخلافة ورجعوا – كما كانوا- طائفة تقتل طائفة. والعالم يبصر ضعفنا ويغري ببعضنا بعضنا. ولا يرضى لنا وطنا واحدا ولا دينا موحّدا. وتالله ما العيب إلاّ من مرض الاستعباد عندنا، وتالله ما الخزي إلاّ من مرض الاستبداد فينا.
هل يكون غد العرب منيعا إذا اقتتلوا؟
أم هل يكون غد الأكراد عزيزا إذا انفصلوا؟
أم هل يكون غد الأمازيغ كريما إذا اعتزلوا؟
هكذا يظنون، وليتهم علموا أنّهم مخدوعون، فلو استقام أمر الانفصال لاستقام للأولين، ولو صلح أمر الاعتزال لصلح بالسابقين، ولكنّ التاريخ شاهد أنّ العرب والأمازيغ والأكراد لم يكونوا شيئا مذكورا ولا خطّا مسطورا. وهل يذكر التاريخ للعرب مجدا بغير الدين، أم هل يذكر للأكراد فاتحا مثل صلاح الدين، أم هل يذكر للأمازيغ قائدا مثل ابن تاشفين. كلّ أولئك هبة الله لأمّة الإسلام.
ألا لحاك الله أيتها القبيلة، ما ضعفنا إلاّ من دعواك، ولا شتاتنا إلاّ من بلواك. أنت نار تستعر ولهب ينتشر، فدعينا لغايتنا، الله خالقنا ومحمد نبينا والإسلام ديننا