قسوة في غير موضعها / د.عبد الحفيظ بورديم
جرت حكمة العلي القدير أن يغلب التيسيير شدائد التعسير، وانطوت معاني الوجود على ميل النفوس إلى التبشير وإعراضها عن التنفير. واستقرّت معاني الدّين على القول الليّن والبرهان البيّن. وكلاهما فصل بين الدعاة وبين البغاة. فما عرف عن عظيم إلاّ الصبر، ولا علم من كريم إلاّ البشر.
وما عرف عن مستكبر إلاّ الفتك، وما علم من مستهتر إلاّ الهتك، فسبحان من قضى أن يعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف، وسبحان من أمر بالعدل ولو مع أهل الحيف.
وما أعظم الأنبياء والمرسلين، حملوا الدّين الأسنى وجبلوا على الدعوة بالحسنى، فاستغفر إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) لأبيه، وعفا يوسف(عليه الصلاة والسلام) عن إخوته وذويه، وأطلق محمد(عليه الصلاة والسلام) أسرى طيء ومناوئيه. حتى إذا نفخ الشيطان في جنده واستزلّهم بمكره وكيده، استنصر نوح (عليه الصلاة والسلام) ربّ العالمين، وأنذر صالح(عليه الصلاة والسلام) ثمود فكانوا من المهلكين، وأهلكت دعوة موسى(عليه الصلاة والسلام) فرعون فكان من المغرقين. سنّة الله التي خلت في الأوّلين. إنّما القساة كالسائمة لا تقوم لهم قائمة.
وليس بين الأنبياء تعارض، ولا بين المرسلين تناقض، إنما هي رسالة خالدة قامت عليها أمّة واحدة. الأصل عندها هي أخلاق الرحمة، والقوّة تحفظها الحكمة، فلا تشقى بضعف ينتابها، ولا تطغى بقوّة تحتاجها.
ولكن ما شأن هذه القسوة، صارت لنا منهاجا وقدوة. الآباء لا يحسنون إلاّ القهر، والمعلّمون لا يجيدون إلاّ الزجر. والمجرمون تفنّنوا في ختلهم، واللصوص جدّدوا في حيلهم. والتجار صار الغشّ ديدنهم، والساسة أصبح الخداع والانشقاق معدنهم، والمكلّفون بالأمن قبضتهم من حديد، وبعض المتديّنين لا يفتون إلاّ بالتشديد. أينما ولّيت وجهك ألفيت القسوة عنوانا يصدمك ومشهدا يرعبك. ولولا بقية من الصالحين شيوخ ركّع وأطفال رضّع لهلك المذنب والبريء، ولعذّب المحسن والمسيء.
وكنت أجد من دعاة العلمانية قسوة في العناد، لزعمهم أنّ الله لم يشرّع للعباد، ولظنّهم أنّ الدين حبيس المساجد وليس له أن يدعو إلى خليفة راشد. وكنت أمنّي النفس أنّ دعاة الإسلام رحمة للأنام، وأنّهم يفشون السلام ويطعمون الطعام، فيفرح بلقياهم المحزونون، ويمرح بقربهم المحرومون. هم الذين لا يستكبرون ويصلحون ولا يفسدون.
فإذا بعض الشباب من الأغرار لا يستلذّون إلا طريقة الأشرار، يدعون إلى الله على غير بصيرة، قبل أن يصلحوا منهم خفايا السريرة. وربّما شطّوا في النظرة، فتعرّضوا لمن خالفهم الفكرة. كيوم لم يرقبوا في (عبد الفتاح مورو) سبقه واعتداله، فرموه بالدماء يبغون قتاله، فلله ما لقي من عصابة المتفيقهين.
ووالله ما على ( مورو) أخشى، ولكن على الإسلام أخشى. يظنّ الأجلاف من المتدينين أنهم بالقسوة يحمون الدين، وما علموا أنهم يسيئون ولا يحسنون، فهلاّ خافوا على أنفسهم أن يكونوا دعاة على أبواب جهنّم.