مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
الحدث

الهلال بين الرؤية والفلك/ التهامي مجوري

نظمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يوم السبت 9 رمضان 1433هـ الموافق لـ 28 يوليو 2012 بدار الإمام في المحمدية، ندوة علمية شارك فيها فلكيان وفقيهان، ونشطها الدكتور عبد الحفيظ بورديم، عضو المكتب الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

أما الفلكيان فهما الدكتور جمال ميموني، والدكتور نضال قسوم، وأما الفقيهان، فهما الدكتور عبد الحليم قابة، والدكتور محمد ادير مشنان، وموضوع الندوة  كان حول القضية المزمنة  التي صاحبت الأمة الإسلامية منذ قرون، وهي قضية تحديد دخول الشهور القمرية، التي لها علاقة ببعض عباداتنا، كرمضان والحج والزكاة والعدة …إلخ، إذ المعروف أن تحديد بداية الشهر القمري من الناحية الشرعية، لا تثبت إلا باعتماد الرؤية كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  في ما يخص رمضان تحديدا  “صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له” وفي رواية “فأتموا عدة شعبان” وهذا هو منطلق الفقهاء عموما، باعتبار أن المصدر الأصل هو نصوص الوحي، ولكن رجال الفلك لهم رأي آخر، وهو أن  هذا المعنى له الحكم الزمني، أي كان ينبغي اعتماده لما كان الناس يعدمون وسائل إثبات الشهور، أما الآن وقد تقدم علم الفلك وأضحى من الممكن تحديد بدايات الشهور لسنوات قادمة، فلم  يعد اعتبار الرؤية البصرية ضرورويا.

في هذا الإطار بدأ النقاش وانتهى، ولكن ما تميزت به هذه الندوة العلمية عن غيرها من مثيلاتها، أن فريقي الندوة قد تفهم كل منهما محاوره، بحيث قدم كل منهما عرضه على أن هناك مشكلة أخرى  غير الفقهاء والفلكيين، فالدكتور نضال قسوم تحدث عن فوضى في كيفية رصد الهلال واعتماد الرؤية البصرية التي يدعيها بعض الناس، بل يقول إنه مع آخرين مهتمين بالموضوع قد قاموا بتحقيق في الرؤية التي اعتمدت بداية شهر رمضان هذا العام، وحكم ببطلانها، واستحالتها، واستنكار د.نضال لهذه  الرؤية بدا وكأنه متحامل على الفقهاء وأنصار الرؤية البصرية بينما الدكتور مشنان الذي ظهر وكأنه معارض، فقد تكلم  بلغة الفقيه الذي ينظر في مسألة يترتب  عنها حكم فقهي متعلق بعبادات الناس، مهما كانت ضرورة الرؤية ومهما كان صدقها، ولكن في الأخير حوصل كلامه في أن القضية من جانبها العلمي يمكن لكل متخصص إذ يصل إلى ما يصل إليه وفق منهجية معينة في إطار التخصص، ولكن الذي يجمع هذه الرؤى والآراء ويثبتها أو ينفيها هو القرار السياسي، لكي لا تكون الفوضى التي نبه إليها د.نضال.

لا شك أن الرؤية في إثبات الشهور القمرية لا سيما التي لها علاقة بالعبادات، هي الأصل، لأن الشريعة نزلت لكل الناس ولجميع العصور، ومقاصد الشرع تنزل منزلة ما يليق بأغلب الناس وليس بنخبهم ومتخصصيهم، والرؤية البصرية هي الفعل البسيط الذي يفهمه كل الناس ويستوعب  معناه، أما ما زاد عن ذلك فيعد من الآليات المساعدة التي لا تلغي الأصل، ذلك أننا  قد تعبدنا الله بما هو يقين وإذا تعذر اليقين يمكن اعتماد  الظن الراجح، والرؤية البصرية هي اليقين، واليقين عند الغيوم اليوم الموالي الذي قد يكون اليوم الثاني من الشهر، ومع ذلك لم يأمر الرسول صلى اللسام بقضائه رغم أنه يمكن اكتشافه.

أما بالنسبة لعلم الفلك، فهو وإن كان اليوم يختلف عن العصور السابقة، إلا أنه لم يكن يقينا في معلوماته، بحيث يعتمد كآلية أوليّة، أو مبدئية في الفقه الإسلامي، ولم يعتمده الفقهاء منذ القدم رغم أنهم كانت لهم اجتهادات فيه وإضافات هامة.

يبقى الإشكال فيما توصل إليه الفلك في العصر الحديث، من تقنيات في مجال تحديد الشهور القمرية، هل يصلح أن يعتمده الفقهاء في مناهجهم اللاصقة بحقوق الله وحقوق العباد معا، أم هو علم مثل سائر العلوم، ومجال من مجالات أهل الذكر ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ يعود إليه الفقهاء للاستعانة به كآلية من آليات فهم الوحي ومقاصده وتزيلها على واقع الناس.

ولا شك أيضا أن الفلكي لا يفهم حديث “صوموا لرؤيته…” إلا في إطار إثبات الشهر، وما دام الشهر قد ثبت يقينا بواسطة علم الفلك، فلماذا لا يكون الحساب هو الأصل؟

وهذا من الناحية العلمية صحيح ما دام المطروح علما وليس دروشة، ويمكن اعتماده في المعاملات، أما في العبادات، فإن للفقيه منهجيته البسيطة التي انطلقت من واقع أمة أمية لا تعرف عن العلوم شيئا، وهو الحد الأدنى المفترض في المكلفين، ويفترض أن يعرض هذا الدين على أقوام وجماعات، قد يكونون في مستوى الأمة التي بعث فيها النبي الأمي عليه الصلاة والسلام.

صحيح أن الأميّة ليست مكرمة يمكن أن يفخر بها المسلم، ولكن مقاصد الشرع لا يمكن أن تكون عادلة، إذا لم تنطلق من مشتركات الإنسان، أي القواسم المشتركة بين بني البشر عالمهم وجاهلهم والمتحضر منهم والمتخلف، فعندما يتكلم الفقيه عن الرؤية البصرية في إثبات الشهر القمري، فلا يعني أنه يُكذّب علم الفلك، أو أنه يشكك في معطياته بالضرورة، وإنما يريد أن يقول أن ما اعتمده الوحي هو البسيط الذي يفهمه كل الناس، وإلا كان التكليف تكليفا بما لا يطاق.

والموضوع في تقديري لا بد وأن يلتقي حوله العلماء من الفريقين، فيندمج كل منهما في الآخر، عبر النقاش والحوار، ليتشرب الجميع من أوعية الجميع معاني العلم النافع، والعبادة التي يقبلها الله وتنفع الأمة، وكما قال رئيس الجمعية، يتحول الفلكي إلى فقيه، والفقيه إلى فلكي، فتذوب فوارق الدنيا والآخر كما ذابت في أذهان علمائنا عبر العصور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى