منهج تغيير ما بالأنفس من خلال آية النداء/ بقلم: أ.د/. عبد المجيد بيرم*
لا أحد ينكر ما للإسلام من فضل على العرب، إذ نقلهم من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، فقد نقلهم من وثنية الاعتقاد إلى صفاء التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، و من الضلال إلى الهدى، ومن الجاهلية إلى الإسلام، وجعلهم أمة واحدة بعد تفرق وتمزق وتناحر، بل جعل منهم خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف والصدق والحق، وتنهى عن المنكر، وتقيم دعائم الإيمان .
فهل هذا التحول الذي طرأ على العرب أيام نزول الوحي، وهذا التغيير في نفوسهم، كان تلقائيا؟ أو أنه خضع لقانون عام وقاعدة كلية ؛وهي قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد – 11]. فإذا كان الأمر كذلك ،فكيف تم هذا التحول والتغير؟،هذا ما سنحاول الوقوف عليه من خلال المنهج القرآني في تقرير الأحكام التكليفية المتعلقة بالعبادات وبخاصة ما اقترن بشهر الصوم.
وإنه لمن نافلة القول أن نقرر حقيقة هي أوضح من الشمس في رابعة النهار و هي أنّ الإسلام بعباداته على تنوعها وتشريعاته وأحكامه هو العامل الرئيس في عملية تغيير ما بالأنفس.
مقاصد العبادات في الإسلام:
العبادات الإسلامية على تنوعها تتضافر على إحداث التغيير لما بالأنفس، فالصلاة التي هي إحدى كبريات فرائض الإسلام التي تكرر في اليوم خمس مرات،إن أديّت على الوجه الأكمل فإنها تحمل صاحبها على اجتناب الفحشاء والمنكر، قال تعالى{ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }(العنكبوت – 45)، كما أن فريضة الزكاة فيها تطهير وتهذيب وتزكية للنفس قال تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها}(التوبة – 103)
إلى غير ذلك من أنواع العبادات من صيام وحج وتلاوة وذكر…وهكذا فإن جميع العبادات التي شرعها الله تعالى إن أدّيت على الوجه المطلوب تحدث في المرء أثرا من شأنه أن تسمو وترتقي بصاحبها نحو الأحسن.
وسنقف على الآيات التي دلت على فريضة الصيام في رمضان في سورة البقرة، والتي استهلها الله تعالى بالنداء لأهل الإيمان في قوله سبحانه :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ…إلى قوله ..وإذا سألك عبادي عني فإني قريب…}(البقرة – 183 – 186).فهذه الآيات تضمنت مجموعة من العوامل الكفيلة بإحداث تغيير معتبر بالنفس من خلال ما شرع في شهر رمضان من أنواع الطاعات ،مما يؤهله ليكون منطلقا لتغيير حقيقي، فعلماء النفس يقررون أن التغيير إنما يحصل بالتكرار ما بين ست مرات إلى واحد عشرين مرة،وشهر رمضان يتراوح ما بين تسعة وعشرين يوما وثلاثين ،ففي هذه المدّة كفاية لإحداث تغيير في سلوك ما .
فالله عزّوجلّ جعل شهر رمضان وعاء لركن من أركان الإسلام وهو الصوم الذي يعتبر أحد الوسائل المهمة في تغيير ما بالأنفس، والوسيلة الثانية المشروعة في هذا الشهر على وجه آكد هو الإقبال على كتاب الله تعالى تلاوة وتدبرا وعملا. والوسيلة الثالثة التي جاء تأصيلها في آيات الصوم هي اعتماد منهج الاعتدال والوسطية البعيد عن الشطط في أداء التكاليف ،والأخذ باليسر في مواطن الترخّص واعتماد العزائم في حالة الاعتياد.
والوسيلة الرابعة التي تعتبر من العبادات المرغب فيها في كل وقت و تتأكد في شهر رمضان المعظم هي الإقبال على الله عز وجل بالدعاء والتضّرع، ودل عليه قوله تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.و قد جاءت هذه الآية في معرض الحديث عن أحكام الصيام.
وهذه الوسائل الأربعة كفيلة بإحداث التغيير المطلوب ما بالأنفس ،وهذا ما سنتعرض له بشيئ من التفصيل.
الوسيلة الأولى: الصوم
من الوسائل الناجعة التي تساعد على إحداث التغيير في عمق الإنسان بحيث تستأصل منه السلوكيات و العادات التي ألفها ودرج عليها، وتحلّ محلها سلوكيات وأخلاق وأعمال توصل إلى “التقوى” الصيام،سواء كان هذا الصيام مشروعا على وجه الوجوب والإلزام ، كما هو الحال في شهر رمضان أم مشروعا على سبيل الاستحباب والتطوع ،كما هو الحال في صيام الست من شوال أو يوم عرفة أو يومي التاسع والعاشر من محرم أو أيام البيض أو مطلق النفل.
فالصيام الذي هو إمساك عن الأكل ،والشرب، والوقاع ،من الفجر إلى الغروب ،من شأنه أن يقوي إرادة الإنسان وعزيمته في ضبط النفس ،والتحكم فيها، وحملها على الخير، والاستقامة ،والصبر على الملذات والطيبات ساعات معدودة، فإذا كان المرء عاجزا عن هذا، فكيف يثبت أمام الإغراءات والشّهوات أيّاماً وشهورًا!!
لذا كان الصيام الذي هو امتناع عن الحلال والمباح والطيّب في نهار رمضان وسيلة للبعد عن المحرمات والممنوعات وحتى المشتبهات ، والإمساك عن المعاصي والشرور والأذى وغيرها من المنهيات في غير الصيام أو “شهر رمضان”، وإذا أضيف لهذا الامتناع الشّعور بالمراقبة فـــ ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به“ كان ذلك باعثا قويا على المسارعة في الطاعات واجتناب المحرمات.
فأول خطوة لانجاز أي عمل هو العزم والتصميم ،وعليه فمن لم يعزم في شهر رمضان على حمل النفس على المعاني التي قصدها الشارع الحكيم من تشريعه هذه الفريضة فإنه يخل بشرط ضروري في التغيير ما بالأنفس.فلا يتحقق بدونه المقصود .
وإذا صاحب المسلم هذا الشعور في حلّه و ترحاله، في سرّه وعلانيته، وفي جميع أوقاته و أحواله ،وتكرر معه طيلة شهر رمضان تحول إلى شخص آخر في تفكيره وسلوكه ومعاملاته وفي علاقته بغيره، فلا يصدر منه إلا ماهو خير ولا يقول إلا صدقا وحقا، يعفو عمن ظلمه، يصل من قطعه، يقابل السيئة بالحسنة إلى غير ذلك مما هو مطلوب من المؤمنين.
فشهر رمضان يمثل فرصة ليتخلص المرء من كثير من العادات السيئة والسلوكيات الخاطئة و التحرر من المألوف والرتابة ،كما هو فرصة لغرس أخلاق طيبة و سلوكيات حميدة
محفزات الامتثال:
– من محفزات الامتثال في التكاليف الشرعية بعامة وفي شهر رمضان بخاصة هو ورود الأمر بالصوم بعد النداء بوصف الإيمان مباشرة ،وهو عامل قوّي في شحذ الهمّة لتنفيذ ما يرد بعده ، لأنّ الشأن في الإيمان أن يحمل صاحبه على القيام بمستلزمات الإيمان ، فالإيمان هو ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ، كما أنّ الخطاب المباشر للمؤمن من قبل خالقه سبحانه له أثره في سرعة الاستجابة ، وقد كان أحد الصحابة يقول :” إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فارعها سمعك، فإنه خير يؤمر به أو شر ينهى عنه “.
-ومما يحفز أيضا على امتثال الأحكام الشرعية ، التكليف الجماعي الذي دل عليه قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام } إذ جاء الخطاب فيه لجماعة المؤمنين و التكليف حينما يكون جماعيا يكون أدعى للامتثال، فالصوم – مثلا- في شهر رمضان يكون أخف على النفس من الصيام في غير رمضان،لأن الاشتراك مع الآخرين في عمل ما يكون أبعث للنفس وأنشط من العمل الذي يقوم به منفردا،وهكذا سائر التكاليف الشرعية.
والآية التي نحن بصدد الحديث عنها هو الصوم في شهر رمضان الذي أوجبه الله على المؤمنين ، ومن شأن الصوم الصحيح أن يسوق صاحبه إلى “التقوى” وهي الوسيلة الأولى في عملية تحقيق تغيير ما بالأنفس.
وإذا عدنا إلى حال المسلمين اليوم، الذين يتكرر عليهم شهر الصيام مرة في السنة فضلا عن صيام أيام التطوع، ثم لا نلحظ تغييرا ذا بال على مستوى السّلوك والمعاملة ، بل إننا نجد نقيض مقاصد الصّوم في هذا الشهر من قلّة الصّبر وضيق الصّدر والغضب لأتفه الأسباب، العراك، والشّجار إلى غير ذلك من السّلوكيات المشينة ، مما يجعلنا نعتقد بأن صيامنا بهذه الكيفية لا يمتّ بصلة إلى الصيام الذي يريده الله عز وجل ، وَ شَرَعَهُ الإسلام لتحقيق المقاصد المرجوة منه ؛ ذلك أنه إذا كان صوم المرء هو مجرد الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع مع إرخاء العنان للنفس أن تعبث وتلهو وتستهتر ، وللّسان أن يقول هجرا وكذبا وزورا ،وللبصر أن يحملق فيما لا يحلّ، وللسمع أن يصغي إلى ما لا يجوز ، فإنه لا يحدث أي أثر فيه، وهذا ما أكدته السنة النبوية ” فربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”، و ” ومن لم يدع قول الزّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
الوسيلة الثانية : التي وردت في سياق آيات فرضية الصوم على هذه الأمة هي الإقبال على القرآن الكريم تلاوة ودراسة وتفهما وعملا، إذ أن ابتداء تنزيل آي الوحي كان في شهر رمضان قال تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ “-، وقد شرف هذا الشهر باختيار الله لليلة منه لاحتضان هذا الحدث الجلل ، فهذه الليلة خير من ألف شهر،كما أخبرنا الله تعالى في تنزيله -إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر- و قد كان رسول لله – صلى الله عليه وسلم- يأتيه جبريل – عليه السلام – فيدارسه القرآن ،فشهر رمضان هو شهر القرآن ،بالإضافة إلى ما فيه من الترغيب في قيام الليل في صلاة التراويح وسماع آيات الله تعالى تتلى،“فمن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
القرآن مصدر هداية
يمثل القرآن الكريم للمسلمين المصدر الأول للتشريع و الهداية وهو صمام الأمان من أي انحراف ؛ جاء في بلاغات الموطأ:” تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي “.
فالقرآن الكريم بالنسبة للمؤمن هو حبل الله المتين الذي يعصم من يتمسك به ، والنور المبين الذي يضيء له في حياته: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (الأنعام: 122) وهو الذكر الحكيم ، الذي تطمئن به قلوب المؤمنين: { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28).
وجعْلُ شهر رمضان شهرا للقرآن يتناسب مع ما يكون عليه المؤمن من الصفاء الروحي ؛ إذ أن الصوم يضيّق مجاري الشيطان في النفس، لذا كان المسلمون عبر تاريخهم يجعلون هذا الشهر مناسبة لتجديد الصلة بالقرآن وإزالة الجفاء والهجران بتلاوته وتفهمه والاعتبار بعظاته والوقوف عند حدوده ، فتلاوة القرآن الكريم تجلو عن القلب الغشاء وتذهب الصدأ ؛ أخرج البيهقي في سننه:” إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قالوا يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن “.
التلاوة المطلوبة :
التلاوة التي تحدث تغييرا ما بالأنفس ، وتثمر استقامة وصلاحا هي التي تكون بالتدبر ؛ أما التلاوة من غير فهم أو تدبر ، فلا تفيد صاحبها في إحداث التغيير المطلوب ، وإذا أضيف لهذه التلاوة مخالفة أحكام القرآن فإنها تتحول إلى وبال عليه ، يقول أنس -رضي الله عنه-: ” ربّ تال للقرآن ، والقرآن يلعنه “ لأنه على نقيض تعاليم وهدي كتاب الله -عز وجل-.
فالتلاوة المطلوبة من المؤمنين والمقصودة من الآية الكريمة: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29) هي التي يشترك فيها اللسان والعقل والقلب ، فيكون حظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل ، وحظ العقل فهم المعاني ، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر.
القرآن بين السلف والخلف :
القرآن هو القرآن لا يزال غضا طريا كما أنزل ، إذ تكفل الله تعالى بحفظه وصيانته من أن تمتد إليه الأيدي بالتبديل والتغيير، كما حصل للكتب السابقة.
لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك أن الأوائل قرأوا القرآن بتدبر وتفهم وكان همهم تجسيد معاني القرآن في واقعهم وسلوكهم ، كما كان صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم-، إذ جسّد هذا القرآن في سلوكه وأخلاقه ، تقول السيدة عائشة -رضي الله عنها-، وقد سئلت عن أخلاقه -عليه الصلاة والسلام- فقالت:” كان خلقه القرآن “ رواه مسلم.
فكان أحد الأصحاب إذا حفظ عشر آيات لا يتجاوزها حتى يعمل بهنّ ، فتعلموا العلم والعمل ، وأما نحن فقد اكتفينا من القرآن بألفاظ نرددها، وبآيات نجمّل ونزيّن بها الجدر ، ووضع المصاحف في البيوت للبركة ، والافتتاح ببعض الآيات في البث الإذاعي والتلفزيوني…
والحق أن بركة القرآن ، إنما هو في تدبره وتفهمه والاستفادة من هديه والوقوف عند أوامره والبعد عن نواهيه وتحكيمه قال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُواْ الْأَلْبَابْ} ( ص : 29 ) فلا بدّ من اليقين بأن كل آية، وكل جملة ، وكل كلمة منه ، هي كلام الله تعالى متوجهة إلينا.
الوسيلة الثالثة :
إن أثر العبادات الإسلامية تتضافر لتجعل من المؤمن صورة مشوقة لتعاليم الدين، بحيث يعكس وسطيته البعيدة عن الغلو والتعمق والشطط، ووضوحه البعيد عن الغموض والرمزية، وسهولته البعيدة عن التعقيدات، ويسره البعيد عن العنت، ما يجذب الآخرين ويغريهم باعتناقه أو تمثل تعاليمه.
منهج تربوي سديد
وهذا الأمر يتوقف على حسن التعامل مع التكاليف الشرعية بعامة، وأحكام الصيام بخاصة، والذي يدل على هذه الوسيلة الثالثة من وسائل التغيير ما بالأنفس في آية النداء هو قوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }(البقرة: الآية 185 ) فهذه الآية وإن كانت ترسي مبدأ عاما وقاعدة كلية في بيان منهج التعامل مع التكاليف الشرعية، فإنها في هذا الموضع تبين منهج التعامل مع أحكام الصيام على وجه الخصوص، إذ يرخص للمريض والمسافر مسافة قصر في رمضان بالإفطار، على أن يقضيا تلك الأيام مستقبلا.
وهذا تخفيف من الله تعالى للمؤمنين، لأن حمل النفس على الصوم في حال المرض المجهد، أو السفر المُضني مما يلحق به مشقة غير معتادة، مخالف لِقصد الشارع في التكليف ” إن الله يحب أن تؤتى رُخصه كما تؤتى عزائمه”. ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- أنّه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وهذا المسلك يمثل منهجا تربويا سديدا وهو كفيل بإحداث تغييرات عميقة في الأنفس، وذلك بأخذ يد المكلف والارتقاء به في مراتب الكمال، والتدرج به من مرحلة إلى أخرى ومراعاة الظروف المخففة للترخص، وعدم حمل النفس ما لا تطيق إذا ترتب عنها مشقة غير معتادة وهذا عند طروء الأعذار، فالقاعدة التي ينبغي أن تراعى في هذا المجال هو اعتماد العزائم في الأحوال الاعتيادية، لأنه الأصل في التكاليف، واعتماد الرخص عندما تحضر أسباب الترخص، وهذا المنهج تتجلى فيه واقعية التشريع الإسلامي، ومخالفة هذه القاعدة في التعامل مع التكاليف الشرعية يؤدي إلى مناقضة قصد الشارع في التكليف، لأن التشدد والغلو في مواطن الترخص يؤدي إلى الانقطاع وربما الهلاك، وفي الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-:“هلك المتنطعون”، فالتعمق والغلو ومغالبة أحكام الدين غالبا ما يؤدي بالمكلف إلى الانقطاع والتخلي عن أحكام الدين، وفي الحديث: ” إنّ هذا الدّين متين فأَوغِلُوا فيه بِرفق”، فالذي يريد الأخذ بكل أحكام الدين؛ بواجباته ومستحباته وفضائله جملة دون مراعاة التدرج ، وعدم الأخذ بالرخصة مع قيام موجبات الترخص، فإن النتيجة هو التخلي عن أحكام الدين والنفور منها، وفي صحيح البخاري: ” ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه “ وجاء في أثر روي مرفوعا وموقوفا، وعدّه بعضهم من الأمثال: ” إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى “ ومعناه أن المسافر الذي يجهد مركوبه لقطع مسافة ما، دون أن يعتمد التدرج والمرحلية؛ بأن يتوقف لإراحة دابته لتأخذ قسطا من الراحة حتى تنشط وتستمر في مشوارها ،تكون النتيجة لا هو وصل إلى مبتغاه ومقصده الذي يريد أن يصل إليه ولا هو أبقى دابته ومركوبه سالما.
وفي مقابل هذا المسلك الذي يتسم بالتشدد والشطط عن الاعتدال والوسطية في التعامل مع الحكم التكليفي نجد من يترخص في مواطن العزائم، أو يتتبع الشاذ من الآراء والاجتهادات أو يعرض عن المتفق عليه إلى المختلف فيه، فإنّ هذا يؤدي بالمكلف إلى التحلل من أحكام الدين واقتحام دائرة المشتبهات وربما الممنوعات وفي كلا الحالتين فإن قصد الشارع لا يتحقق في المكلف.
فالوسيلة الثالثة التي تُسهم بإحداث التغيير ما بالأنفس في آية النداء هو اعتماد المنهج الوسطي في التعامل مع أحكام الدين بعامة وأحكام الصيام بخاصة، حتى يتحقق من خلال هذا المنهج التغيير المتدرج في النفس، فالمكلف حينما يعتمد أحكام العزائم في الأحوال الاعتيادية، فهو ممتثل لأمر الله عز وجل، وحينما يأخذ بالرخص عند قيام موجب الترخص فإنه ممتثل أمر الله عز وجل أيضا.
الوسيلة الرابعة :
تناولت آية النداء من سورة البقرة الحديث عن عبادات متنوعة لها أثرها في سلوك الإنسان إن أُدّيَت على وجه الكمال والتّمام و يأتي في أولها الصوم وهو وسيلة ناجعة من وسائل تغيير ما بالأنفس، والوسيلة الثانية الإقبال على كتاب الله تلاوة ودراسة وتفهما وعملا، والوسيلة الثالثة حسن التعامل مع الخطاب التكليفي بوجه عام، ومع أحكام الصيام على وجه الخصوص، والوسيلة الرابعة هو ما دلّ عليه قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } إنه ” الدعاء “ والتضرع للخالق جلّ جلاله، وهو من أهم الأسباب والوسائل التي تزيد من يقين المؤمن وتقوي إيمانه وتجعله موصول الصلة بالله عزّ وجل.
ودعوة المؤمن بالتوجه بالدعاء لقيّوم السماوات والأرض في روحانية شهر الصيام والقيام توثق صلة الإنسان بربه، لذلك رغّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين في الدعاء عند الصيام لأنه قمين أنْ يستجاب “إنّ للصائم عند فطره دعوة ما ترد” رواه ابن ماجه، وفي السنن إلا أبا داود ” ثلاثة لا ترد دعوتهم منهم الصائم حتى يفطر”.
فالصائم أقرب الدعاة استجابة وهذا تحفيز للمؤمن من أن يكثر من الدعاء وهو صائم، والدعاء سلاح المؤمن يستعمله لمواجهة الشدائد والمصائب والمتاعب، يتوجه به إلى القدير الذي لا يعجزه شيء والعليم الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، والرحيم الذي لا يتخلى عمن طرق بابه ولجأ إليه، فهو البرّ الرحيم مجيب دعوة المضطرين وكاشف كربات المكروبين ومنفّس الهمّ عن المهمومين وغافر ذنوب المذنبين، ومن هنا كان الدّعاء “مخ العبادة”، كما جاء في الحديث ؛ والعبادة هي نهاية الخضوع والتذلل لمن بيده الأمر كله، فالذي يدفع الضّر ويجلب النفع ويعطي النسل وييسر الأرزاق ويقضي الحاجات ويرفع البلاء ويشفي الأسقام ويحفظ من المهالك هو الله سبحانه، فالوسائل في قبضته مسخرة بتسخيره.
إنّ هذا الشعور الذي يرافق المؤمن وهو صائم ممسك عن المنهيات ومقبل على الطاعات، وعلى تلاوة القرآن متدبرا وممتثلا، مع التضرع والدعاء يترك أعمق الأثر في نفسه، يحمله على دوام المراقبة، ويجعله شديد الحساسية لكل مخالفة أو سلوك أو تصرف يتنافى مع التقوى.
فالدعاء المستوفى شروطه والمنتفية موانعه يفتح للمؤمن ملاذا يلجأ إليه ويلوذ به آملا في تفريج كربته وذهاب حزنه وتأمين من روعه ورفع البلاء عنه وتيسير أموره…
ولاشك أن هذه الوسائل من صوم وتلاوة وتدبر ودعاء مجتمعة كفيلة بإحداث تغيير عميق لما بالأنفس.
فَحَرِيٌّ بالمسلمين أن يجعلوا من هذه المحطة الرمضانية التي تتكرر عليهم مرة في السنة نقطة انطلاق لإحداث التغيير المنشود ،{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} فالوسائل متوفرة لم يبق إلاّ تجسيدها بطريقة سليمة وتمثلها على وجه صحيح حتى تحدث في نفوسنا ما أحدثته في النفوس أيام نزول الوحي، وما ذلك على الله بعزيز.
للموضوع مراجع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم الاسلامية – جامعة الجزائر1.