ما في عنايتنا برمضان الكريم.. من مغزى لو تفهمناه/الشيخ عبد الحميد بن باديس
ما أحرانا بالاكتفاء في تأدية هذه العبادة الشريفة بالفائدة الدينية الروحية المحضة، ألا وهي، تقديس أمر الله وتعظيمه، وابتغاء مرضاته، لكن نزوغ الفكر الجديد إلى تعليل كل ظاهرة دينية أو فنية قد لا يقتنع بغير إظهار ما يرمى إليه غرض الشارع في مثل هذه الشعيرة المقدسة، معتمدًا في ذلك على أن الإسلام من مبادية تدعيم تعاليمه بالعقل والتفكير، ونحن مع تقديرنا لجانب من يكتفي بالفائدة الروحية، ولجانب من يسمو بفكره إلى الفوائد الأخرى مما يتصل الأخلاق والاجتماع لا غنى لنا عن بحث هذه الظاهرة الدينية، سواء من ناحيتها الأخلاقية، أو الاجتماعية، وعن الإلمام بما يكتنفها من منافع ربما راءها المتجددون مضارا، ومن مضار ربما حسبها البسطاء منافع أو جهلوها بالمرة.
إن الظهور بمثل هذه الظاهرة الدينية لما يزيد في أحكام الرابط الملي وتوثيقه، وإن الشعب كلما كان دءوبًا على القيام بمقدساته كان بعيدًا عن الاندغام، وقويا على مقاومة العوامل الهدامة وعلى الجوانب المادية البحتة التي أمعنت في إغراء الشبان الناشئين، وحسب الشعب في ذلك أن يدلل على أن فيه حياة قومية سامية، وقوة ملية دافعة، وهذا، ما يحدو بنا إلى اليقين بأن التمسك بالمقدسات والقيام بها جميعها مما يرضى الرب، ويجلب الخير العميم للشعب، ويقوي الشعور، ويحي ميت الآمال، بل هذا مما يستحث همم الشبان على التمسك بمقدساتهم دون أن تأنف أنفسهم، أو تعاف الوقوف بجانب المحافظين المتمسكين بها المتصلبين فيها، وحسبهم في الثغلب على تيار المادة الجارف وعلى سلطان الفكر الجديد الجبار النازق أن يلقوا نظرة فاحصة على انكلترا لا تأنف نفسها – رغم تفوقها في مضمار المدينة – من تخويل القانون قسيس لندن أن يفتتح جلسة البرلمان البريطاني في كل دورة بالدعوات الدينية، إن كلا من قوتها المادية والعلمية لم تحل المِلِّية التي تتوسل لإظهارها بكل وسيلة. ولعلنا لا نخطئ المرمى إذا قلنا، إن قيامنا بمقدستنا – كيفما كان شأنها وخطرها وشأننا معها – لمن أسمى الأغراض في مثل هذا العصر الذي طغى فيه تيار الغرام بالاندغام، والكفر بالقومية، والجحود لمزايا الماضي، وكثر الزيغ عن تعاليم الإسلام، وهذا التمسك هو البقية الباقية بأيدينا – ولنعمت الباقية الصالحة هي – زيادة على البقية الأخرى التي شعر بها شاعر النيل حافظ، فعبر عنها في بيته :
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا إلا بقية دمع في مـآقينا
أجل، إن محافظة المسلم عموما، أو صلابته الدينية وقوة شكيمته أمام مقدساته – رغم ما في محافظته وما إليها في بعض الدعائم من ايغال وشطط حينا، وسخافة خرافية أحيانا – لما يجهد عليه وينال من يعرفون ويدركون مغازي الصلابة والمحافظة، حتى في العرف الشائع والتقاليد الوراثية.
إن محافظة المسلم الجزائري خصوصا، وصلابته الدينية في جميع مقدساته – رغم ما يكتنف ذلك من أوضاع أكثرها قشور وعزاء، ورغم أننا لا نحمد له كل غلو يضيع الغرض الأسمى – مما ينبغي أن يكون مثلا أعلى لكل أمة لم يبق بيدها سوى تلك القوة الروحية، ولمن موجبات التفاؤل بالمستقبل السعيد، أو ببقاء الروح الملية وخلودها على الأقل. إن الجزائري متشبع بهذه الروح الوثابة أمام شعائره الدينية عموما، ربما بلغت به هذه الروح إلى حد التطرف، لكن ربما حلت روح التساهل محل روح ذلك التطرف في غير فريضة الصيام، أما فيها فلا هوادة ولا مساومة، ولا تأويل ولا تحوير، ولا منزلة بين الكفر والإيمان، ولا يقتنع الجزائري بدون هذا التصلب، ولو كان في مكان من السذاجة، والانهماك والدعارة والإباحية، فإذا رأيته دءوبا على غشيان المساجد في شهر رمضان فثق بأنه غدا يصلي إكراما لرمضان، على أن هذه الصلاة تنتهي بانتهاء شهر رمضان، وإذا شاهدته في الحمام فتيقن أنه راح يتطهر إجلالا لرمضان، بيد أنه على نية العودة إلى الطهارة، لكن عندما يدور الحول، بل لا يفتأ يرفه البخيل نفسه ويسخو عليها وعلى المعوزين، ويهجر المدمن المستهتر الخمر أم الخبائث، ويتعفف الحشاش، ويتواضع المتحذلق الشامخ بأنفه، وغاية كل واحد من هذه الطهارة والقداسة تعظيم جانب رمضان، واعتبار القائم به قائما بالإسلام كله، واعتبار المنتهك حرمته وحرمة أية شعيرة فيه منتهكا لحرمة الإسلام بتمامه. ولعل الوصول إلى هذا الحد في تمجيد فريضة الصيام والاحتفال به عندنا دون ما هو أوكد من الدعائم الإسلامية الأخرى، وفي العناية في الشرق بفريضة الصلاة أكثر من العناية بفريضة الصيام، لعل مثل ذلك ناشئ عن تغلب العرف والعادة، أو عوامل أخرى نحن في غنى عن بحثها لبيان موقف المسلم العارف الذي يجب أن يقفه إزاءها.
حقًا، إن القيام بشعيرة رمضان على المنوال الذي سارت عليه مثل بلادنا مما يدل على وجود استعداد فطري لمصادمة ومقاومة ما هو أكبر من آلام الجوع اللاذعة، وعلى وجود قوة روحية، بيد أن الكثير يجهلون كل ذلك تبعا لجهلهم ما يترتب عليه من الفوائد الاجتماعية التي يغنمها الصائم، منها، تلقيه درسا حكيما في الصبر والجلد والثبات وقوة العزيمة، وفضيلة الدأب على العمل وقد عرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث رواه الترمذي : “الصبر نصف الصوم”. ومنها شعور – إذا كان مثريا – بالألم الذي يلذع الجائع حينما يقف الفقير المطعون بالخصاصة أمامه. ومنها شعوره عند انتهاء رمضان بجفاف الرطوبات البدنية وتضاؤل المواد الرسوبية التي وقع الاكتشاف عليها في الغرب حديثا، وما إليها مما ينهك وينشئ أمراضا، وتلك الرطوبات ونحوها متولدة – كما قال ابن سينا الحكيم الإسلامي – من الطعام، بل وبإبراء المصابين بأمراض مستعصية، مثل المرض السكري والحصى، ونحو ذلك مما ألف فيه كثير من علماء الغرب بعد إجراء تجارب عملية في أنفسهم. ومنها، قسر المترفين والجاؤهم إلى مساواة البائسين في فقدهم معا متع الحياة وشهواتها ولذائذها.
إن سير المسلم الجزائري على ذلك النحو مما يحمد عليه، لو كان بصيرا خبيرا بما دون ذلك من المرامي، ولو لا ما يتخلل سلوكه في هذا الشهر من مفاسد ربما كان أثرها السيء يفوق ما توخاه من المثوبة، ومن عواقب لا تحمد، ونتائج قد تعسر معالجتها، والسبب في الانحراف عن طريق التوفيق هو جهل الصائم الهدف الذي هدانا الله إلى معرفته من طريق العقل والتفكير، وعدم تفهمه ما ينطوي عليه تعريف الصوم من أنه : “الإمساك عن شهوتَيِ الفرج والبطن”، وافاده عن معنى حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أن كما الصوم في كف جميع الجوارح عن شهواتها ولذائذها، وإليك الحديث : “إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتلة أو شاتمة فليقل، إني صائم إني صائم”.
إن الصائم عندنا قد وطن نفسه حقا على هجران الشهوتين، لكن لم يقو على هجران ما هو أشد خطورة وأسوأ نتيجة، إنه يعنى بالصلاة والطهارة الحسية، ويسخو بكل عزيز، لكن لا كعناية بما هو أسمى لديه، ولا كسخائه بما هو أنفس في نظره، إنه يريد الظهور بمظهر المسلم الصميم في هذا الشهر، ولا يريد أن يعرف أن الخير بتمامه يتطلب شيئًا من التضحية، يروم أن يكون صائما بكل ما في الكلمة من قوة، لكن الرعونة، وقلق النفس، والنزق والطيش، والقذع، وما إلى ذلك مما يتخلق به في هذا الشهر شأن مأجور منتظر مزية، كل ذلك لا يدعه أن يحقق كل أو بعض ما يروم ويصبو إليه.
ومن السخف أن يظل الإنسان صائما، ثم يفطر على الحرام، الزاني والزانية على السفاح، والمقامر على الميسر، والنهم على مائدة لا يفارقها مدى الليل، يلتهم فيها ما لا قبل لمعدته به. بل ما يرهقها والأمعاء. ومن المخجل أن نرى المترفين لا يغيرون في هذا الشهر سوى مواقيت الأكل بجعلها في الليل. وأن يمعن العامل خصوصا في السهر المضني، وأن لا يتحرج الصائمون من الإسراف في رمضان إلى حد الإنفاق بما لا يطاق. وبما يدعه مدينا مدة السنة. وأن يلهوا على تكظمه أقلام العناصر الأخرى من النقد المر لكل ما لا يتفق ومبادئ الحياة. وعما يصرح به بعض أقلامهم النزيهة في زعمهم من أن الصيام أصبح لا جدوى له، اعتمادا على سلوك الصائمين الذي ألمعنا إلى بعض آثاره السيئة. أخطرها ارتكاب ما ينافي مبدأ التوفير، وإنهاك القوى الجسمانية. والإسراف والإسفاف. واستهلاك دخل العام برمته في نفقات شهر واحد، ونحن لئن شايعنا النقدة في حملات بتلك اللهجة فإننا لا نشايعهم بحال فيما يكظمون في أنفسهم من المرامي البعيدة. أقربها للفهم الحيلولة بين الصائمين وبين ما يرمى إليه غرض الشارع الأساسي. أو بين ما تعتز به الملية وتتدعم. كما لا نشايعهم في نفي كل فائدة عن الصوم. ومعتمدون أن الضعف والذبول الناجمين عن الجوع لا يمكن أن نسميهما صحة. وأن ما ينشد من العلاج بالجوع ينشد في هذا العصر العلمي بدون ذلك من الوسائل الطبية الكيماوية. وتنظيم الأكل تنظيما علميا، كما أن معتمدنا – إذا لم نشايعهم في هذه الناحية وما إليها – أن ما يعقب الضعف والذبول من القوة وسرعة النمو نظرا لقاعدة رد الفعل أكثر مما ذهب ضحية الجوع.
ونزيد، أن من أمانينا أن ينشد الصائم ما يتفق وغرض الوازع الديني، وما يمكن أن يكون كمثل عليا للعالم. وأن يتخطى الصائم المحتسب ما يصادمه، وما يمكن أن يكون كمثل عليا للعالم وأن يصومه صوم مسلم صميم يراعي المغزى والغاية ويتطلبها عن اقتناع صحيح وإيمان صادق، وأن يكتفي في مثل بلادنا على الأقل ولو بما ينجم عن القيام بهذه المقدسة من أحكام الرباط الملي، وجعل الوحدة القومية في حرز حريز وفي نجوة مما يلتهما ويدمجها في غيرها. وأن يناضل الأفكار المسمومة التي يناوينا بها من أرصد قلمه لنقد كل حركة تبدو منا حتى ينتصر عليها ويستعيض عنها بأفكار نيرة يستثمرها وأمته ماديا وأدبيا. وأن يؤمن بأن وصولنا إلى هذه الغاية النبيلة متوقف على القيام بشعائرنا ومقدساتنا بتمامها، فهلموا إليها وجددوا عهدكم بأن تقوموا بها أتم قيام. وأن تلاحظوا دائما أن ذلك هو رمز الإسلام الذي يهدي الله إليه من يشاء من الأنام.
* الشهاب : ج2، م7، غرة شوال 1349 هـ/مارس 1931 م.