تقوى الفتنة ويعظم خطرها ويصعب صدّها عند استقواء نوازع الشر في الإنسان وتغلّبها على منازع الخير والحق والجمال، وهي منازع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلّما أخذت الفتنة طريقها في حياة الناس اختل توازن الوجود الإنساني بينيا على المستوى الفردي والاجتماعي وبينه وبين الظواهر الكونية وفي صلته ببديع الكون وخالق الإنسان، الذي أبدع الكون والحركة والنظام، وهب الإنسان حسن الخلق والخلُق مادة حيّة ووعيا وإرادة، ينعم بالعقل المدبر لكل ما يهم الإنسان وما يتصل به، ويملك الإرادة التي تخترق القيود وتختار بنور البصر والبصيرة على بيّنة، فتفصل في الصراع الأزلي بين نوازع الشرّ ومنازع الخير، بين مصادر القبح ومساراته ومطبّاته من ناحية وبين منابع الحسن ومسالكه ومصبّاته من ناحية أخرى، في كثير من الديانات والثقافات عبر التاريخ وحتى الآن يتفق العقل مع الوحي في أنّ خيرية الإرادة البشرية وفاضليتها بالفطرة لا بالكسب، ويزيدها الكسب تأييدا لذلك وتأكيدا عليه.
ففي خضم الصراع الدائر بين الخير والشر لا على المستوى الأخلاقي فحسب بل في جميع وحدات الوجود وفي كافة مستويات الحياة الإنسانية التي تتميز بالكثرة والتشابك والتعقيد، يضطلع الإنسان لما له من قوى بمهامه وصلاحياته لفرض النظام على المستوى الفردي وفي المجتمع وفي تفاعله مع الكون، واستغلاله كافة الإمكانات المتاحة في أناه وفي غيره من بني جنسه أو في الكون، انطلاقا من الإرادة النبيلة التي تسمو فوق كل ما هو دنيء، لبناء حياة يسودها النظام وتحكمها القيّم العليا، من تواصل إيجابي واحترام متبادل وحوار بنّاء وتسامح، وفي أمن والسلام.
لكنّ الواقع الإنساني اليومي منذ حلّ البشر أوّل مرّة على الأرض حتى الآن يعيش حدّة الصراع بين اتجاهات الخير ومنازع الشر في الفرد والجماعة وما أكثر الأفراد والجماعات، ويسجل بمرارة تلك الهوة السحيقة والبون الشاسع بين النظر والعمل، النظر العقلي والديني والاجتماعي والأخلاقي والحضاري عامة، وما يؤكده هذا النظر من أهمية عظمى في حياة الإنسان لثلاثية الحق والعدل والجمال ولسائر القيّم العليا الأخرى التي تمثل الخير، ومدى حاجة الإنسانية فرادى وجماعات إلى الخير، وما يجلبه الخير للإنسان على المدى القريب والبعيد معا، النظر في مقابل العمل والممارسة اليومية المعيشة حسّا وواقعا التي تثبت ما لا يثبته النظر بالعقل أو بغيره، وتدل على استمرار الفساد في كل الأزمنة والأمكنة واشتداده في الفكر وفي النفس وفي المجتمع وفي صلات الإنسان بالكون وببديع الكون، وعند طغيان الفساد وبلوغه درجة لا تُطاق تضطلع فطرة الإنسان من قلّة أو من كثرة برسالتها وتركن إلى الإصلاح والتجديد والبناء والتعمير وتنبذ ما ليس منها من اختلال في موازين الحياة، كل ذلك يجري على أسس ويتخذ سبلا سلمية أو عنيفة لرد الأوضاع إلى نصابها وطبيعتها، ومن السبل المتخذة الثورة.
1- الثورة حراك كوني وحتمية تاريخية
الثورة في حياة الإنسان الفرد والجماعة فعل من أفعال الطبيعة البشرية وهي جزء من الطبيعة الكونية ككل في اتجاه التغيير باعتباره أساس حركة الوجود ومسارها ومبتغاها، وصوب الاستنهاض مما تميّز بالسكون والركود، ونحو قلب الأوضاع بالنسبة للحراك الثوري أو الحراك الثوري المضاد في سياق جدلية الصراع التاريخي الدائم بين قوى النزوع نحو إحقاق الحق والعدل في النفس وفي المجتمع وفي الكون وبين قوى التوجّه إلى إبطال الحق والعدل وإلى توقيف إذكاء نار الفتنة، وفي جميع الحالات منذ القديم حتى الآن تركب الثورة موجة التغيير المطلوب وفق ما ينبغي أن يكون وانطلاقا مما هو كائن بين الواقع والمأمول، والانتقال من السكون والضعف والاختلال والفلتان إلى الحركة والقوّة والنظام والإحكام.
تسعى الثورة إلى ما يجب أن يتحقق بعدما غاب واختفى من منظور العقل والشعور والواقع وسائر القيّم والشرائع والنظم التي تؤمن بها الثورة في بعدها الإنساني التاريخي الفردي والاجتماعي ولا تؤمن بغيرها، على أنّ الواقع المُثار عليه بلغ من التأزم والغليان والثوار بلغوا من القنوط والغضب والثورة بلغت من النضج والنماء وعيا وتسلّحا بالوسائل والسبل سلميا أو عنفا أو هما معا، كل ذلك بلغ ذروته، فتنطلق الثورة ويتحرك معها التاريخ ليتسلّم البناء الجديد في أجل قريب أو بعيد، فالثورة حراك طبيعي إنساني اجتماعي شعبي تاريخي ينطلق متى توفرت شروطه ولوازمه ساعيا إلى إحداث البناء الجديد بعد تحطيم البناء القديم وإبعاد ردمه و بقاياه في وقت قصير أو طويل، وتحتاج العملية إلى توافر وتضافر كافة الجهود وحشد جميع الطاقات وتعبئة كل القوى الثورية للحفاظ على نتاج الثورة من كل الأخطار التي تحدق بها.
وفي كثير من الحالات يلقى الحراك الثوري مصاعب تحُول بينه وبين أهدافه، فيتعثر ويخمد ويُخفق جزئيا أو تماما، ومسار الحراك الثوري بين النجاح والإخفاق مردّه إلى سياقه التاريخي بجميع أبعاده، فالثورة حراك إنسان بكل ما تحتويه لفظة إنسان من دلالات، والإنسان وثورته في كل الأحوال بدءا وسيرا ونظاما وأهدافا كل ذلك يتم في جوّ يشتد فيه الجدل والصراع والتناقضات بين القوى الثائرة والقوى المعارضة، فيرتبط نجاح الثورة بقوة الثوار وضعف خصومهم أما إخفاقها فينتج عن قوّة أعدائها أو إلى اختلال في وسائل وسبل تنفيذها، الأمر الذي يتطلب حساب الثورة بالدقة والعمق الكافيين.
إذا كانت الثورة حراكا إنسانيا ينشد تغيير واقع راهن إلى واقع جديد مختلف يحمل آمال وتطلعات الثوار فإنّ ذلك يعبر عن صراع بين إرادتين متعارضتين في المبدأ والمنهج والغاية، إرادة جاثمة على أرض الواقع بيدها زمام الأمور همّها حفظ الواقع القائم من الزوال من غير اهتمام بأحواله في السلب والإيجاب أو رعاية مصالح الناس ومطالبهم، وإرادة مطلبها إزالة الواقع القائم وتغييره نحو الأفضل متخذة طريق قلب الأوضاع عنفا أو سلميا مستغلة جميع الإمكانات المتاحة لتحقيق ما يتطلع إليه أصحابها ومن خلال كشف عورات الواقع المعيشي المتأزم المثار عليه، فالإرادة الثورية تتحول إلى حركة ثورية عملية واقعية تربط مبادئ الثورة بوسائلها وسبلها المختلفة وبآمالها وتطلعاتها، ويجري تنفيذ الثورة في الواقع في إطار توجّه إيديولوجي يتجه فيه الثوار يتميّز بوحدة المنظور أو تعدده ووفق إستراتيجية نظرية وعملية تشمل كل ما يعني الحراك الثوري منذ انطلاقه حتى وصوله إلى مراميه.
عند تحليل الثورة باعتبارها ظاهرة إنسانية نجدها حراكا إنسانيا مركبا فيه الفطرة والكسب معا، فيه القوّة والضعف، يرتبط هذا الحراك بالوجود الإنساني ككل ويصدر عنه سواء في الاتجاه السلبي أو في الاتجاه الإيجابي أو في اتجاه الجدل والصراع بين الاثنين، والثورة بهذه الدلالة ترتبط بكيان الإنسان وما يتميز به من تفرد في تركيبته وحركته وتأثيره وغائيته، كيان مركب بأقصى التشابك والتعقيد والتعدد والتنوع والتغيّر، مما هو بيولوجي يشترك مع ظواهر أخرى في العالم الذي يعيش فيه الإنسان، ومما هو فكري وعقلي ونفسي خاص بالإنسان، ومما هو ثقافي بكل ما تتجلى فيه الثقافة من مظاهر وأشكال، ومما هو اجتماعي يتسع مجاله للكثرة والتنوع والتغيّر والتشابك والتعقيد، فيوجد السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي والتربوي والإيديولوجي والعلمي والتقني وغيره كثير، وكل جانب من الجوانب المذكورة يتصل بغيره ويتداخل معه وينحل إلى ما يصعب حصره وتحديده، والثورة ترتبط بهذا الكيان مصدرا وحراكا وغاية.
فالثورة انتفاضة إنسان بعد سكون واستنهاض إرادة بعد نوم سباتا كان أو إغفاء، وحراك جماعة بشرية بلغت من النضج في الوعي الثوري ما يؤهل الإنسان نحو تثوير كيانه الفردي والاجتماعي، تثوير الأنا والمجتمع والواقع في حركة شاملة لا تستثني طرفا في إنسانية الإنسان، فالثورة ثورة العقل والفكر على ما لا يرومه من أفكار وتصورات ومفاهيم بعد تفكير وتأمل وتدبر فيما هو كائن وفيما ينبغي أن يكون تحليلا ونقدا وتقييما واستنتاجا، فثورة الفكر العلمي قبيل وخلال النهضة الأوربية وحتى الآن تعكس دور العقل البشري في إنتاج ثورة الأفكار والمعارف والتمكين لها، وكل ثورة في حياة الإنسان إنّما هي ثورة في الأفكار قبل كونها حراكا عمليا ملموسا.
الثورة ثورة أنا ووعي وشعور، أنا مفعم بالرغبة في التغيير وعلى درجة عالية من الاهتمام بذلك فيتمركز الشعور على ذلك انتباها وميلا وتفضيلا واهتماما وغيره، لأن التثوير أو التغيير أول ما يبدأ في النفس وعلى مستوى الشعور ثم ينتشر بعد ذلك في العالم الخارجي الاجتماعي والطبيعي. قال تعالى:” إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”. الرعد:11. وقال تعالى: ذلك بأنّ الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأنّ الله سميع عليم”. الأنفال: 53.
كل الثورات وحركات التغيير التي عرفها الإنسان عبر تاريخه الطويل جاءت بداياتها أول مرّة في النفوس، نفوس تتغير وتتحول من الداخل كليا أو جزئيا لرفض الواقع والتمرد عليه، وتتشكل فيها الأفكار الجديدة والمشاعر المغايرة والمضادة لما هو قائم ذاتيا وموضوعيا في اتجاه تحقيق التطلعات والآمال التي هي في مصدرها وجوهرها ومنتهاها مطالب نفسية فردية تأخذ الصبغة الاجتماعية بعد ذلك، لذا نجد الكثير يولي عناية خاصة بتربية نفوس النشء على الفكر الثوري التثويري والروح الثورية في مقابل روح الاستكانة والقابلية للاستعمار التي يعتبرها المفكر الجزائري “مالك بن نبي” هي وراء كل استعمار عرفته البلاد العربية في عصرنا.
حتى أنّ الثورة من داخل النفس وتحوّل الشعور وتبدّل حالة الأنا هي حالة وجدانية ذاتية خاصة، تعتبرها الكثير من الاتجاهات الدينية والفلسفية وغيرها تكفي الإنسان رفضا للواقع وانتصارا على أي حال غير مرغوب فيه، فالتغيير المنكر يكفي بُغضه بالقلب عند عجز اللسان واليد، والسجين يكفيه شعوره بالحرية ورفضه للسجن وقيوده ليكون حرّا بعد عجزه عن التحرر الملموس، فقبل أيّة محاولة ثورية في أي واقع اجتماعي ما يبدأ الحراك الثوري في الأنا، هذا الحراك الذي يشقّ طريقه خارج الأنا من خلال التواصل والحوار والتنظيم وبواسطة كل ما من شأنه يدفع نحو إخراج فكرة الثورة والشعور بها من الموت إلى الحياة ومن الظلام إلى النور ومن النظر إلى العمل.
إذا كانت الثورة في بدايتها ثورة عقل وفكر وثورة أنا وشعور فهي ثورة جماعة بشرية بعد ذلك، فئة أو طائفة في المجتمع، أو ثورة شعب، أو ثورة أمة، الثورات الإنسانية عبر التاريخ لها ما يجمعها وتتقاطع فيه ولها ما يفرقها وخاص بكل ثورة بعينها، والثورة في المجتمع يتسع ويتنوع ويتعدد مجالها منطلقا ومسارا وأهدافا باتساع وتعدد وتنوع الحياة الاجتماعية في تكوينها وبنيتها وفي سائر مجالاتها، فهي في أول أمرها فردية بكل ما يتميّز به الفرد من خصوصية بيولوجية ونفسية وعاقلة ومدنية اجتماعية، الخصوصية الفردية التي كانت وراء تكوين الجماعة ووراء تحويل الجماعة إلى مجتمع منظم وشبكة من العلاقات الاجتماعية في قطاعات ومستويات عدّة ترتبط بها الثورة جميعا من كونها فكرة وخلال حراكها وتنفيذ إستراتيجيتها وبالنسبة إلى ما تأول إليه.
الثورة في المجتمع تتجاوب تأثيرا وتأثرا مع الفرد ما ويتصل به ومع الجماعة وما يعنيها، هذا التفاعل بين تنفيذ الثورة وما يؤيده ويدعمه ومع ما يتحداه ويصده ومع المواقف الوسط وغيرها، في سياق فيه من التعارض والتباين والتضارب والتعدد والتنوع في الموقف والاتجاهات والمصالح ما لا يمكن حصره، ففي الثورة في أي عصر وفي كل مصر يحضر الأنا الفردي بكل قواه، وتحضر الثقافة ويحضر الدين وتحضر السياسة والأخلاق والتربية والعلوم والفنون وسائر التقنيات ويحضرا لاقتصاد ويحضر المجتمع ككل بسائر علاقاته وظواهره ومؤسساته وبجميع فئاته، فتنشأ الثورة وتتكون بفعل تدخل الفرد والمجتمع وبتأثير كل قوانين وعلاقات ومؤسسات المجتمع، ولمّا تُزهر الثورة وتُثمر فقطوفها تدنو وتُستغل في كل ما يخص الفرد ويعني المجتمع الذي يعيش فيه، بل تستغلها المجتمعات الأخرى في سياق التواصل الإنساني الاجتماعي المتبادل.
فالثورة العلمية في أوربا الحديثة على الرغم من مرجعيتها الليبرالية الرأسمالية والعلمية التكنولوجية والعلمانية فإنّها أحدثت التغيير المطلوب والتحّول اللاّزم في الحياة الاجتماعية للشعوب الأوربية بكل ما تعرفه الحياة الاجتماعية من مجالات، إذ سجلت الثورة خروج التفكير في اتجاه العلماوية والتكنولوجية والعلمانية عن التفكير الديني المسيحي وعن التفكير الفلسفي القديم أي عن المنهج الإيماني الكنسي في حياة وعن المنهج الأرسطي في البحث والدراسة، وقلبت الثورات الأوربية الحديثة سائر الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية عامة، بواسطة قيّم ومقوّمات الحداثة من حرية وديمقراطية وفصل الدين عن الدولة وتحكيم العقل والعلم والارتكاز على التكنولوجيا وسلطة القانون واحترام حقوق الإنسان وغيرها.
هذا الحراك الثوري الإيجابي الذي عرفه الغرب الأوربي الحديث صار تقليدا للشعوب المتخلّفة في أوروبا وخارج أوروبا، ومنها الشعوب العربية والإسلامية، وفي كل الحالات الثورة هي تغيير وتحول في داخل الإنسان وخارجه، وقلب الأوضاع القائمة المألوفة وانقلاب على الحاضر يستند إلى الماضي ويسعى إلى آت أفضل وفق إستراتيجية ما، حراك ثوري رياحه تهب في جميع الاتجاهات وتشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية للجماعة البشرية بمختلف أنماطها من دون استثناء أي جانب منها، وقد تهب على جماعات بشرية أخرى تفاعلا وتأثرا لما بين التجمعات الإنسانية من تقاطع وارتباط، وما يحدث من تأثير متبادل فيما بينها، لأن الحكمة من التعدد والاختلاف بين الناس على الرغم من وحدة الأصل فهي التواصل والتعارف والتواد والتعاون لا الفرقة والتدابر والتناحر مثلما هو حال المجتمعات العربية المعاصرة وحتى حال المجتمعات غير العربية في تأثرها بالثورات العربية الراهنة.
ترتبط الثورة في تكوينها وبنيتها وحراكها بالسياق الاجتماعي والتاريخي العام الذي تتحرك فيه تأثرا وتأثيرا، وبمقتضى الأوضاع القائمة فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا وغيره، وبمقتضى إمكاناتها المتاحة وعيا وتنظيما وقوّة في العدد والعدّة تختار الثورة المسلك الذي تسلكه، العمل في السرّ أو في العلن، طريق السلم والمطالبة أو طريق العنف والمغالبة، تركّز على عمل النخبة أم إشراك جميع الناس في العمل الثوري، تستهدف قلب الأوضاع تماما أو تكتفي بالحراك الإصلاحي، كل ذلك ضمن خطة واضحة في مبادئها ووسائلها ونتائجها، وإلاّ تتعثر وتُخمد.
الثورة إرادة جامحة توّاقة إلى الاكتمال والإنجاز والتحقق، لذلك تتحلى بمكارم الأخلاق، ولكونها حراكا كونيا فهي تلبس دوما الفضائل وتجعلها شعارات ومبادئ لها وفي مطالبها ونتائجها المنشودة، ترتبط الثورة بالحق والصدق والعدل والحرية والمساواة والنبل والشرف والإباء والشجاعة والبطولة والمجد والسؤدد وغير ذلك من المحامد لدى الفرد والجماعة معا، ولكونها ضرورة وحتمية تاريخية فهي تتشبّه بكل ثورة ناجحة سابقة أو معاصرة لها صنعت الأمجاد والحريات والبطولات تستلهم منها العبر وقوّة العزم على الدوام والاستمرار حتى الانتصار.
تعكس إستراتيجية الثورة منذ ثار أول إنسان في الوجود حتى الآن إرادة الإنسان في الحياة، وحياة الإنسان ليست في مستوى المخلوقات الأخرى التي تعيش معه، فإرادة الحياة الإنسانية مقرونة بدور الإنسان وبرسالته في الحياة وهي خلافة الله على الأرض، رسالة على أشرف حال وأمانة في أعظم درجة ودور في أرقى مستوى، لذا فكل ثورة تنشد الأفضل وتطلب الأرقى وتسمو وتترفع عن كل ما هو دنيء في مبادئها وقيمها ومطالبها، فتواجه مصاعب وتحدّيات جمّة تعكس هذه المواجهة الصراع الجدلي الكوني بين الخير والشر في الإنسان، وتنتصر في النهاية قيّم الخير العليا على منابع الشرّ السفلى لأنّ الخير حقّ وصدق والحقّ يُعلى ولا يُعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، والحق هو الله فوق كل الموجودات.
سنن الكون والحياة كثيرة، لولاها لاختل نظام الكون ولفسدت الحياة، والثورة فعل إنساني من سنن الكون ومن حتميات التاريخ اهتدى إليه الإنسان بحكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء لضمان النظام والعدل والتوازن وردّ الأمور إلى نصابها في نفس الفرد ووجوده وفي كيان المجتمع وفي الإنسانية جمعاء وفي الكون ككل، فالثورة بحق هبة من الله تعالى تردّ الإنسان إلى فطرته السليمة التي فطره الله عليها لا على غيرها في العقيدة والشرع والأخلاق والآداب وفي عمارة الأرض عامة.
2- ثورة الجزائر نهضة وتحضّر
الإنسان في كل مرحلة من مراحل التاريخ وفي الحاضر وفي المستقبل هو محرك أيّة انطلاقة نحو التغيير صوب التقدم والازدهار أو في اتجاه التخلف والانحطاط، الأمر الذي يدفع إلى كشف مواهب وطاقات الإنسان وقدراته المودعة فيه بالطبيعة، والحرص على استثمارها والارتقاء بها وتطويرها لضمان قوّة الفكر وقوّة الأداء والممارسة، تحقيقا لمردود متميّز في كافة مجالات الحياة، يعكس درجة الرقي الفكري والثقافي عامة، كما يعكس درجة الرقي التي بلغتها سيطرة الإنسان على محيطه الطبيعي توظيفا واستغلالا وتسخيرا، وعلى مجتمعه تنظيما وتوجيها وتقنينا، وسبيل ذلك بناء الإنسان وإعداده لإيجاد كفاءات تضطلع بتحريك التاريخ وبالاستنهاض الفكري والثقافي والاجتماعي والحضاري.
كل نهضة عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، نهضة فكرية ثقافية أو صناعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثورية سلمية أو دموية، هي من إنتاج كفاءات ذات وعي بلغ درجة من النمو والنضج بحيث لا يمكنه أن يعود إلى الخلف، وهو حال النهضة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، وحال الثورات التحررية في الوطن العربي الحديث، ومن أبرزها الثورة التحريرية الجزائرية، التي صنعت ملحمة تاريخية خالدة، بالقياس إلى ما صنعته من أمجاد وبطولات، وبالقياس إلى إمكاناتها المحدودة، وإلى قوى الغدر والإجرام والاستعمار التي تكالبت عليها، سلبا لأراضيها ونهبا لثرواتها ومسخا لهويتها وتاريخها وانتمائها الحضاري، وتشويها لدينها ولغتها وإذلالا لأبنائها.
وبما أنّ الإنسان وحده هو القوّة الوحيدة، التي إذا استثمرت أفضل استثمار تصبح هي الآلية القادرة على صنع المعجزة، ذلك أنّ الإنسان الجزائري الذي يملك الإيمان بالله وحبّه لوطنه وأرضه وعرضه ويملك من المعرفة والأخلاق والآداب الكثير، وبتوجهاته السياسية والوطنية، وبنشأته على حب الله والوطن والدين الإسلامي واللّغة العربية -لغة القرآن الكريم- وحبّه للحرية والكرامة والعزّة، بغضه للعبودية والاستعمار ومقته للذل والهوان، نشأة حافظت عليها الزوايا والكتاتيب ودور التربية والتعليم المنتشرة في الجبال والقرى والمدن وفي كل أنحاء الأرض الجزائرية، وقبل ذلك حافظت عليها الأسرة الجزائرية التي لم تتخل البتة عن مبادئها وقيمها الجزائرية والعربية والإسلامية والإنسانية، هو ما جعل الشعب الجزائري يلتفّ حول ثواره وثورته ويهزم أكبر قوّة عسكرية استعمارية مدعومة بقوّة الحلف الأطلسي.
استطاع الإنسان الجزائري -وهو يرزح تحت نير الاستعمار والاستدمار والاستحمار- بكفاءاته الدينية الإيمانية والفكرية والسياسية والتنظيمية أن يفرض إرادته الحرّة المستقلة في الواقع وفي الحياة عامة، وفي مواجهة الاستعمار وفي مواجهة أعداء استقلال الجزائر في الداخل والخارج، واستطاع أن يذكي فتيل حرب بين طرفين ليس بينهما تكافؤ، طرف مظلوم مقهور مغلوب على أمره، يملك وسائل دفاع بدائية محدودة وضعيفة، لكنه قويّ العزيمة والإرادة والصبر والتحمّل، قويّ الإيمان بقضيته العادلة شديد التمسك بها، توّاق للحرية والاستقلال ورد السيادة المسلوبة، وطرف ظالم قاهر مستعمر مستبد، استعمل كل أشكال القمع وصنوف الاستبداد وأنواع الظلم المادي والمعنوي، من تشريد وتجويع وتعذيب وتقتيل مع تفنن في أساليب القتل والتنكيل بالجثث وامتهان الكرامة بخدش الحياء والإخلال بالقيّم الخلقية والدينية باستعمال كل الأساليب المتاحة في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد وفي غيره، ارتكب جرائم يندى لها جبين البشرية منذ عرفت الحياة والحياء حتى الآن، أمام قوّة الجلاّد المادية في السلاح والعدد وانهزامه المعنوي، وأمام ضعف الضحية المادي في العدّة والعتاد وقوّتها المعنوية والروحية المنقطعة النظير لأنّها قوّة مستمدة أصلا وأساسا من قوّة الله عزّ وجلّ، هزمت الضحية الجلاّد شرّ هزيمة.
إنّ الحكمة من انتصار الثورة الجزائرية المباركة المظفرة على الجيش الفرنسي الاستعماري المجرم وعلى الحلف الأطلسي المدجج بقوّة الحديد والنار وبالعملاء والممالئين في داخل الجزائر وخارجها تكمن في ارتباط الهبّة الثورية الشعبية الجزائرية في منطلقها وفي مسارها وفي أهدافها بقيّم ودلالات تمثل سنن كونية وضرورات حضارية نهضوية كما تُشكّل حتميات تاريخية، وهي سنن ثابتة في الثقافة العربية الممتدة في الماضي البعيد وراسخة في الشعور الديني الإسلامي العميق العامي والنخبوي، وأبرز هذه الدلالات والمعاني معنى الحرية وقيمة العدل ودلالة الحق وغيرها من المعاني النبيلة والمثل العليا مثل الخير والجمال والمحبة والمساواة والتسامح والتعاون والتضامن والحوار وغيره، وهي دلالات ومعاني قامت عليها كل نهضة في اتجاه التقدم والرقي والازدهار، وكل حضارة عرفها تاريخ الإنسان، وكل ثورة في وجه الظلم والفساد والاستبداد، مسعاها الحق والعدل والحرية، فالثورة في وجه الفساد في الأرض وفي الحياة ولفرض العدل والخير للجميع تمثل قمّة الحضارة وأوجها، والثورة الجزائرية في منطلقها وفي مساراتها وفي مبتغاها ومنتهاها بلغت قمّة النهضة وأوج التحضر، فصارت أنموذجا يُقتدى به في الآفاق.
إنّ صبغة الله في الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحول توجُهُه الطبيعي الفطري نحو الخير ونفوره الفطري الطبيعي من الشر وفي هذا تكمن الإيجابية كفطرة تقوم في الأساس على الخير والحق والعدل وكل ما من شأنه يصب في هذه المثل فكرا وعملا ومقاصد، والإسلام دين ودولة، إيجابياته فطرية في العبادة والمعاملة، في السياسة والأخلاق، في الدين والدنيا تقتضيها الحياة ويتطلبها التوازن المطلوب في الحياة، حيث لا قوامة للوجود الإنساني في الحياة في غياب الضروريات من أمن وغذاء وإيواء وكساء، ولا يستقر التواصل بين العبد وخالقه في غياب استقرار الوجود الإنساني، فالقوامة الإيمانية التعبدية تشترط القوامة الوجودية الإنسانية، والقوامة الوجودية الإنسانية تشترط الحركة الفكرية بحثا وعلما وثقافة والحركة المادية تغييرا وإنتاجا وصناعة، كل هذا في إطار الحراك الإنساني الفردي والاجتماعي نحو الحضارة والاستئناف الحضاري بعيدا عن السكون والضعف والتخلف والانحطاط وهي مظاهر السلبية التي تتنافى مع الإيجابية الإسلامية في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب وفي سائر جوانب الحياة، ولماّ كان الحراك الاستعماري الفرنسي على أرض الجزائر وفي حقّ شعبها منذ الاحتلال حتى الاستقلال مدمرا للعقول والحقول، عابثا بحقوق الناس في الحرية والكرامة والعدالة والتنمية، يكيل بمكيالين، غير آبه بأحداث التاريخ ولا متعظ بعبر الماضي، ضاربا سنن الكون في الإنسان الفرد والمجتمع والبشرية جمعاء عرض الحائط، لكنّ الفطرة أبت إلاّ أن تردّ الحقّ لأهله بانتصار ثورة الضعفاء على قوى السوء والشر والغدر والخيانة.
إذا كانت الحياة الإنسانية في صورتيها الفردية والاجتماعية لا تستقيم أمنا واستقرارا ورقيا وازدهارا إلا بالعدل الذي هو أساس الوجود البشري ذاته، وما دام الوجود البشري في جانب منه روحانيا أخلاقيا فالعدل قيمة خلقية في ذاته مطلوب لذاته لا لغيره فهو بهذه الدلالة قيمة خلقية عليا سمحة ليس مرغوبا فيها لإيجابيتها ونفعيتها المادية الآنية وإنما مرغوب فيها لعينعا ولخيريتها في ذاتها من دون إهمال العدل المادي، ولما يبلغ التعاطي الإنساني مع القيم الخلقية العليا هذه المرتبة فيضطلع الأنا الأخلاقي بمهام سوق الإرادة إلى تفضيل هذه القيّم على غيرها، متحديا تحدّيات اللاأخلاقية بمختلف صورها ومحتوياتها التي كثيرا ما تطغى ويتسع مجالها فيكون فيها الإنسان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، ويغيب التفرد البشري وينمحي التفضيل الإلهي له ولم يعد مكرّما، فتسقط قيّم الحق والعدل والخير وتطغى الأنانية ويسيطر الشرّ والمكر والجور وكل أفعال السوء التي اتّسم بها التواجد الفرنسي بالجزائر من احتلال الأرض وانتهاك العرض ونهب المال والثروة وتشويه التاريخ والماضي وأهلاك الحرث والنسل وقتل الأبرياء كبار وصغار وعزل لغة العرب وثقافة الإسلام واعتدت على القرآن، لكن هذا كله زاد في إصرار الجزائر جغرافيا وتاريخا، شعبا وأمة، نهضة وحضارة، ثورة مجيدة مباركة، على العمل والنضال والكفاح في اتجاهات عدّة وبوسائل عدّة وبأساليب عدّة، فكان للجزائر أن استردت ما أرادته بالقوّة لكونه أُخذ بالقوّة.
يتضح مما سبق أن العدل ضرورة طبيعية على مستوى الطبيعة الخارجية والكون إجمالا، وفي الإنسان على المستوى البيولوجي وعلى المستوى الفكري وعلى المستوى السيكولوجي، هذه الضرورة تفرض التوازن الذي هو شرط استمرار الكون والطبيعة والإنسان أمام الاختلال الذي كثيرا ما يؤثر في الحياة وتأثيره وُجد لضمان التوازن الكوني والطبيعي والإنساني، ففي صراع الأضداد وفي الجدل والتناقض ينتج ما يحرك الكون نحو التوازن والاستقامة وما يدفع الإنسان نحو الاضطلاع بالقوامة والخلافة، فالأزمة تلد الهمة، والموت يذكر بالحياة، والاستبداد يصنع الأحرار، والجهل يدفع إلى رفع التحدي بالعلم والبحث والإبداع، والظلم يُقهر بالتصدي له وعيا وثقافة وسلوكا، أي باتخاذ كل ما يسمح بترسيخ قيم العدل وغرسها في النفوس والبحث عنها في السلوك في مختلف مستوياته، لأن العدل لا يقف عند فردية البشر بل أكثر ما هو مطلوب في الاجتماع الإنساني، فالإنسان حيوان اجتماعي ومدني بطبيعته، ينفر من العزلة وينحى صوب الاجتماع، يرتبط بأخيه الإنسان، يتفاعل معه نفعا وضررا، وتحتاج استقامة هذا التفاعل من الجميع أو من بعضه أو من قليل منه إلى تمثّل العدل والعدالة والاعتدال في الفكر والمعتقد والمعاملة وسائر الأخلاق والآداب، ولماّ أخلّ المستعمر الفرنسي منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر بمعاني الخير والحق والعدل، فكشّر على أنيابه ليلتهم الأخضر واليابس بغير مشفقة وبعيدا تماما عن كل ما هو إنساني، مستمسكا بكل ما هو لا إنساني بغيض وإجرامي، فتوالت جرائمه وتراكمت، فتوفرت شروط النهوض الثوري ولوازم الإقلاع الحضاري، فكان موعد الأمة الجزائرية مع النهضة والحضارة والتاريخ، إلى أن طلع فجر التحرر وبزغت شمس الحرية وغشّت سماء أرض الجزائر برمتها.
لا يتحقق فعل الأداء والإنجاز بمردوده المطلوب وفي أرقى صوره إلاّ من خلال رأس المال البشري، باعتباره العدّة الدائمة في أي مشروع نهضوي وحضاري مثمر، وأول وأرقى أنواع الرأس مال الإنساني، ما يسمى برأس المال الثقافة، الذي يمثل ما تملكه جماعة بشرية ما من معارف وعناصر هوية وخصوصية تاريخية وثقافية ولغوية، باعتبار الثقافة مظاهر دينية وعلمية وفلسفية وفنية وتقنية، وكل مظهر فيها عرف ولازال يعرف التطور والازدهار، والتطور الشامل لكل مظاهر الثقافة هو من صلب وصميم الحضارة، فالرأسمال البشري الثقافي يكتسي أهمية خاصة سواء بالنسبة للتعبير عن الحضارة والنهضة أو بالنسبة لتحويل عناصر الثقافة الخاصة بالأمة إلى دواعي الحركة والفعل والتغيير، فثقافة الزوايا والكتاتيب في الجزائر المحتلة وما تضمنته هذه الثقافة من خصال العروبة في الفكر والممارسة ومن القرآن وأخلاق القرآن وتعاليم الإسلام عامة التي تنتهي بعقيدة تقول أنّ المستمسك بكتاب الله لا تقهره قوّة، حيث استجابت هذه الثقافة بجميع عناصرها لنداء الفطرة والواجب ونداء النهضة والحق والعدل، فتحقق التوازن الذي كان مفقودا بين الرأسمال الثقافي الجزائري وسنن الكون في التاريخ والنهوض والتحضر، وتجسد الصراع بين قوى الشرّ وقوى الخير، بين ثورة شعب أبي صاحب قضية وبين استعمار بغيض مثّل الاستبداد في قمتّه والإجرام في أوجه ومنتهاه، وكانت الغلبة لقوى الحقّ على قوى الباطل لأن الحقّ يعلى ولا يعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله الحسنى ومن صفاته وأفعاله.
النهوض الثوري لدى شعب أبيّ كريم معطاء في تاريخه الطويل، في تراثه وفي عصره، خيار لامناص من الانخراط فيه، وبذل الوسع من الجهد في تكريسه فعلا لا خطابا فحسب، بالاستعانة بكل ما تملكه الأمة من ذخيرة حيّة وطاقة بشرية ومادية، روحية ومعنوية فاعلة وفعّالة في كيان شامل تحشد الطاقات وتعمل على تعبئة الجماهير، وتشحذ الهمم وتجند الطاقات في الداخل والخارج، فهو حراك جدّي وجريء وطني محلي خالي من العمالة الأجنبية التي تسيء لقدسية المنطلق والمنهج والهدف، ففي الجزائر الثورة والنهضة كان كل شيء جزائريا، مع استلهام الدروس والعبر من الماضي والحاضر، والعمل على الصعيدين المحلي والإقليمي والدولي، فأصبحت الثورة حقيقة ثابتة، وصارت النهضة واقعا ملموسا حينها تقدمت مسيرة التغيير الاجتماعي والسياسي في المجتمع من الإرادة إلى الفعل إلى الغاية، فتحوّل الحلم إلى واقع، وتحوّل تاريخ الجزائر الحديث من تاريخ احتلال واستعمار واستدمار واستحمار إلى تاريخ حرية واستقلال وسيادة وبناء تشييد وسير في الركب الحضاري.
خاتمة
إنّ المعجزة التي صنعتها الثورة الجزائرية هي قبل كل شيء معجزة تاريخية سياسية وعسكرية بكل المقاييس، انتهت ببناء دولة لها ثقلها على الصعيد الإقليمي في المغرب العربي وعلى الصعيد الإفريقي وعلى صعيد البحر الأبيض المتوسط وعلى الصعيد العالمي، أقبل الجزائريون في نهضتهم الثورية على المنهج القويم والسلاح الفعّال والوعي الراشد والوسائل الناجعة، من تعاون وتضامن واتحاد فأصابوا الهدف في المظهر والجوهر، في الصورة والمحتوى، لأنّ المشروع النهضوي الثوري التغييري استمد روحه من الذاتية الجزائرية وخصوصياتها الجغرافية والثقافية والتاريخية، فالنهضة الثورية المنتجة هي تلك الوثبة القويّة والهبّة الواعية بذاتها تتخذ من المقاومة والكفاح والصمود سبيلا ومن سنن الكون مطية نحو المنشود من الآمال والتطلّعات