في الذكرى الخمسين للاستقلال: الطموحات والإخفاقات/الدكتور محمد الدراجي
﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف 128/ 129]
إن انتصار الجزائريين على فرنسا، ونيلهم استقلالهم تعد معجزة بكل المقاييس، ذلك أنّ الاحتلال الفرنسي لم يكن كأي احتلال آخر، هدفه استنزاف الخيرات الاقتصادية، وحسب، بل كان استعمارا استيطانيا، هدفه إلحاق الجزائر بفرنسا جغرافيا، وثقافيا، لتكون قطعة من مجموع التراب الفرنسي، وقد كانوا يقولون: كما أن نهر السين يقسم باريس إلى جزئين فإن البحر الأبيض المتوسط يقسم فرنسا إلى جزئين (جزء شمالي، وجزء جنوبي).
ولتحقيق هذا الغرض كان لابد من القضاء على مقوّمات الأمة الجزائرية من دين ولغة وتاريخ، فكانت سياسات الإبادة، والتمسيح، والفرنسة، والزعم بأن الجزائر لم تكن في أي فترة من فترات التاريخ أمة من الأمم، بل هي أمة في طور التكوين، وأن الغاليين هم الأجداد الحقيقيون للجزائريين، وأن العربية لغة أجنبية في الجزائر..الخ من السياسات التي كان الهدف منها القضاء المبرم والنهائي على شيء اسمه الجزائر، يختلف عن فرنسا في الدين واللغة والتاريخ، لتكون الجزائر “أندلسًا ثانيةً” تضيع من دار الإسلام إلى الأبد.
وكان الجزائريون، ومن اليوم الأول الذي وطأت أقدام الاستعمار فيه ديارهم الطاهرة، يدركون هذه السياسات، ويعدون العدة لمقاومتها، وإبطال مفعولها، فقاوموها عسكريا، وقدموا في سبيل ذلك قوافل من الشهداء، وقاوموها ثقافيا ببيان الدجل والكذب الذين تقوم عليهما الأطروحة الفرنسية، وظلّت هذه المقاومة تستعلن أحيانا، وتستخفي أحيانا، وتتخذ طابعا جماعيا آخر، وطابعا فرديا أحيانا أخرى، حتى كانت الهبة الكبرى، ثورة نوفمبر المجيدة، التي كانت ثورة شعبية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهذا سر نجاحها، وصدق الشهيد العربي بن مهيدي أحد مفجري هذه الثورة ورموزها، لما جاء من يشكو إليه قلة الإمكانات المادية من سلاح، وعتاد، وعناصر مقاتلة، وهذا ينذر بفشل الثورة وانتكاسها، فقال كلمته المشهورة: “ألقوا بالثورة إلى الشعب”، فاحتضن الشعب ثورته لأنها كانت حلمه الذي طال انتظاره، فضحى كما لم يضح شعب آخر، من أجل حريته، واسترداد سيادته، وعودة عزه وكرامته، وكان لسان حاله ومقاله: “إنما نطلب إحدى الحسنيين العزة أو الشهادة”.
وأخيرا أكرمه الله تعالى بالاستقلال، وجاءت الفرصة للوفاء للمبادئ التي ضحى الجزائريون من أجلها، وتجسيد الأحلام التي حلمت بها أجيال متعاقبة، وهي تقدم التضحيات، وقوافل الشهداء، فهل وفّى النظام السياسي الذي تقلد السلطة في البلاد بعد الاستقلال للشعب الجزائري، واجتهد في تحقيق تلك الأحلام ؟!
وأول هذه الأحلام الإسلام الذي هو الحصن الحصين لهذا الشعب، الذي حماه من الذوبان والاندثار، وكان دافعه دائما مقاومة الظلم والطغيان، ومقاومة الغزاة، هذا الإسلام الذي أعلن بيان أول نوفمبر شأنه، وبوأه مكانا عاليا حين قرر أن النظام السياسي الذي يحكم البلد بعد الاستقلال، يجب أن يكون محكوما بالإسلام ومبادئه، فأعلن بأننا لا نضع السلاح حتى إقامة دولة اجتماعية ديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية، وعليه فلجوء النظام السياسي إلى المبادئ المستورة في المجالين السياسي والاقتصادي، هو عدم وفاء لأحلام الجزائريين وتضحياتهم، وعليه فحق لهم أن يتساءلوا مع المرحوم الشيخ أحمد سحنون في:
أين الاستقلال أين ارتحلا
أين ذاك الحكم أين انتقـلا ؟
أين حكم الله في الأرض التي
سجدت لله منذ دهر خلا؟
قد بذلنا الجهد لكن لم نذق
ثمرة الجهد فماذا حصـلا؟
وثاني هذه الأحلام العدالة الاجتماعية، التي تكفل الاستقرار الاقتصادي، وتحقق التوازن الاجتماعي، وعليه فالظلم إما بحرمان الناس من التملك أصلا، وتأميم الثروات ومصادرها، وإما تمكن طبقة من الأموال العامة، وإطلاق يدها فيها، لتحتكر ثروات الأمة، وتوظفها لخدمة مصالحه الفئوية الخاصة، لتشكل في الأخير هذه الطبقة البرجوازية المتعفنة، ولكنها متحكمة في كل مفاصل الدولة، فتسعى لاكتساح السلطة من خلال عزوها البرلمان بشراء الذمم والأصوات، في حين أن الغالبية الساحقة لا يصلها من ثروات الأمة شيء، فهذا الأمر يؤذن بالخراب والانفجار، وصدق الشاعر القائل:
إذا لم يك الاستقرار متحققا
فغاية الاستقلال لم تتحقق
ومن أين الاستقرار والظلم حاكم
يخرّب ما شيدنا معا غير مشفق
فمن حق الجزائريين اليوم، وهم يعيشون هذه الذكرى المجيدة أن يسائلوا أصحاب القرار عن أحلامهم التي لم تتحقق، ومن وقف ويقف في طريق تحققها ليقتصوا منه!.