غارودي جنا عليك الجميع…وما جنيت على أحد/ د٠محمد الدراجي
لقد تلقيت خبرين اثنين، أما الخبر الأول فلم يكن ليثير في نفسي أي إحساس، وكنت أتعامل معه بكل برودة، وهو قبول الأكاديمية الفرنسية، الأديب والروائي اللبناني “أمين معلوف” عضوا من أعضائها الجدد، الذين يتكفلون بحماية اللغة الفرنسية، والدفاع عن الثقافة الفرنسية، والترويج لها في المحافل الدولية، والمنتديات العالمية، لولا الكلمة التي ألقاها هذا الأديب في الأكاديمية الفرنسية، وقوله أنه سيعمل على تقارب الشرق والغرب، والإسلام واليهودية والمسيحية، وغيرها من مفردات العولمة الثقافية
ومباشرة بعدها تلقيت خبر وفاة الفيلسوف الكبير، الذي هداه الله للإيمان، وشرح صدره للإسلام، المفكر الفرنسي “رجاء غارودي”، وقد جاء خبر وفاته مصحوبا بهذا التعليق “بدأ الفيلسوف حياته مفكرا شيوعيا، ثم أصبح كاثوليكيا، ثم اعتنق الإسلام، وانكسر (هكذا…) انكسر بتشكيكه في المحرقة اليهودية”.
وهذا الخبر قد أحزنني كثيرا، فنحن نفقد أخا في الإسلام، وأي أخ، إنه مفكر عملاق، وقامة فكرية رفيعة، وصاحب رحلة مضيئة في البحث عن الحقيقة والالتزام بها، وصاحب عشرات المؤلفات، ومئات المحاضرات في المنتديات العلمية والملتقيات، وآلاف المقالات في الصحف والمجلات، بدأ حياته مناضلا شيوعيا ملتزما بالشيوعية فكرا وسلوكا، بل ومنظرا للشيوعية، ولكنه أدرك أن البعد المادي وحده لا يسع السعادة الإنسانية المعذّبة، فولى وجهه شطر الديانة المسيحية الكاثوليكية عساه يجد فيها ما يخفف من غلواء المادية، بما تدعو إليه من مبادئ أخلاقية، وقيم روحية، لكنه أدرك بثاقب فكره، وعمق قوته عجز الأخلاق المسيحية عن تحقيق هذا الدور، لأنها أخلاق سلبية، وليست إيجابية، وبالتالي فهي عاجزة عن أخلقة عالم السياسة والاقتصاد، وبالتالي العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب، فلم ييأس، ولم يرفع الراية البيضاء، ولكنه واصل وعمّق النظر في تاريخ الفكر الإنساني، وتاريخ الديانات المقارنة، وفلسفة الحضارات، فاكتشف تجربة الحضارة الإسلامية الفريدة، ووسطيتها التي لا تُلغي أي بُعد من الأبعاد الضرورية في بناء الإنسان المتكامل، وتحقيق المجتمع المتوازن، وإيجاد الحضارة.
وهنا يكون رجاء غارودي قد ارتكب خطيئته الأولى، وهي الخروج عن مركزية الغرب، الفكرة التي ركز عليها فلاسفة اليونان، وجسدها قادة الرومان، ويحمل لواءها اليوم دعاة العولمة وصراع الحضارات، من فوكوياما إلى لفتنغتون إلى فريدمان، فغارودي راح يبحث عن الخير في غير مكانه في نظر هؤلاء، فالغرب هو مصدر القوة والخير والجمال للإنسانية جمعاء، وما على الشعوب الأخرى إذا أرادت الرفاه والتقدم والازدهار، إلاّ أن تحذو حذو الغرب في كل شيء، فهو النموذج والقدوة، وعليه فالبديل الذي اقترحه “غارودي” وهو حوار الحضارات، مرفوض شكلا ومضمونا، وهكذا فضح غارودي أنانية الغرب، ومرضه بمركزيته ودوغمائيته، ولم يبال.
ولكن غارودي لم يتوقف عند هذا الحد، بل راح يبحث في سرّ الأسرار، وقدس الأقداس في السياسة الغربية، وهو ملف إسرائيل، وخرج على قرائه وهم بالملايين بكتاب “الخرافات المؤسسة لدولة إسرائيل”، أين فضح المستندات التاريخية، والمرتكزات الفكرية والفلسفية، التي تتذرع بها إسرائيل لإثبات أحقيتها في إقامة دولة لها في فلسطين، وما سر وقوف الغرب المطلق والدعم اللامشروط لإسرائيل، وهنا فتحت النار على الرجل من كل الجهات، وكانت تهمة “معاداة السامية” في انتظاره، فجرجر إلى المحاكم، ووصدت في وجهه كل الأبواب، حتى دور النشر التي كانت تتهافت على الفوز بنشر كتاب له، أو الصحف التي كانت تتنافس من أجل الظفر بمقالة أو حوار معه، الكل قلب له ظهر المجن، ولم تتسع حرية الغرب المقدسة للتعبير والتفكير، لفكر الرجل وكتاباته، وبحوثه وأكاديميته.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل حتى في العالم الإسلامي قوبل الرجل بالتهجم، وعومل فكره بالتجاهل، وسلق بألسنة حداد، ولم تحسن الاستفادة من موقعه الفكري، ومكانته العلمية والسياسية في خدمة قضايا العالم الإسلامي، فهو إما أن يكون شيخا معمما يفتي في قضايا النجاسات والطهارة، أو السلم والتجارة، لكي يكون حسن الإسلام، خادما للدين، وإلا فهو متآمر على الإسلام، منخرط في مؤامرة عالمية تستهدف الإسلام وشريعته، بل لم يعرف تاريخ الإسلام رجلا أخطر على الدين منه، كما قال أحد “المسخوطين”، رحمك الله يا رجاء.