مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
تحاليل وآراء

القرآن والدستور / أ.محمد الهادي الحسني

استغفر الله العظيم أن أقارن بين ماهو من عند الله العليم الخبير، وهو القرآن الكريم، الأقوم قيلا، والأهدى سبيلا، الذي لم يأته البطال من بين يديه ولا من خلفه؛ وبين ماهو من عند الإنسان الجهول، الظلوم، وهو الدستور.

ليس معنى هذا أنني ضد إصدار دساتير يستعين بها الناس على تنظيم شؤونهم، خاصة في مسألة الفصل بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، حتى لا يتفرعن إنسان على الناس.

لكن الأمر الذي جعلني أضع الناقص، وهو الدستور، إلى جنب الكامل، وهو القرآن الكريم، هو المكانة التي نضع فيها نحن المسلمين هذا القرآن الكامل، والمكانة التي يضع فيها غير المسلمين دساتيرهم غير الكاملة.

إن أغلب مسلمي هذا العصر في تعاملهم مع القرآن الكريم أشبه ما يكونون بكفار قريش الذين اتخذوا القرآن مهجورا، وجعلوه عضين (❊)، ولهذا كان الإمام محمّد البشير الإبراهيمي يقول: “يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن”، وقد قضى سواده وبياضه في تفهيم الناس معاني القرآن الكريم، لكي يؤمنوا به عن بيّنة، ويلتزموا به عن علم، ويطبقوه عن اقتناع، فيسعدوا في الدنيا، ويفلحوا في الآخرة.

إن غير المسلمين في الشرق والغرب ينظرون – في الغالب- إلى دساتيرهم الناقصة – مهما كملت- نظرة تقديس وإجلال، ويجتهدون بالغ الاجتهاد في أن لا يحيدوا عنها قيد أنملة، ولا يأتون ما يناقض ما جاء فيها من مبادىء، ويتحاكمون إليها إذا شجر بينهم خلاف، ولا يجدون في أنفهسم حرجا ممّا قضت، ويسلمون تسليما، فينزلون عند أحكامها برضا نفس، واطمئنان قلب، واقتناع عقل، وراحة ضمير.

ومما لفت نظري في الفترة الأخيرة في احترام غير المسلمين لدساتيرهم التي كتبوها بأيديهم، ولم تنزل من السماء، ما انتقد عليه رئيس جمهورية ألمانيا كريستيان فولف، وأجبر بسببه على تقديم استقالته، وهو لم يمض على انتخابه إلا سنة وبعض السنة..(1)

إن الرئيس – الرئيس.. كريستيان فولف لم يجبر على الاستقالة لأنه زوّر الانتخابات، أو لأنه استغلّ وسائل الدولة وإمكاناتها في حملته الانتخابية، أو لأنه مدّ يده إلى ما ليس له فيه حق، أو لأنه قبض رشوة، أو لأنه كذب على شعبه، أو لأنه بذّر مال الشعب الألماني في مهرجانات حقيرة وتجمعات سفيهة تافهة، أو لأنه آثر صحبه وأهله على غيرهم.. ولكن كل ما فعله هذا الرئيس الأشرف والأنبل من حكام العرب، واستحق عليه الاجبار على الاستقالة هو أنه وعد مستثمرا ألمانيا موعدة بمساعدته.

لقد قامت القيامة في ألمانيا ضد هذا الرئيس المحترم، وقيل له: لقد أقسمت أن تحترم الدستور، وتطبق ما جاء فيه من مبادىء سامية، وقيم عالية، ولكنك بموعدتك لهذا المستثمر قد خنت القسم والدستور.

لقد ازداد هذا الرئيس – الرئيس سموّا وعلوّا في أعين الناس لأنه لم يصدر بيانا ينكر فيه موعدته، ولم يلجأ إلى المجلس الدستوري ليجد له “فتوى” تسمح له بالدّوس على الدستور.

أنا أبرّىء الرئيس كريستيان فولف عن الطمع والرشوة، ولو كانت موعدته للمستثمر الألماني فيها شائبة من الرشوة وقذارة الأخلاق لاستعان في ذلك بالكتمان والتّستّر، ولكلّم في شأن ذلك المستثمر حاكما من أعرابنا فتفتّح له أبواب العالم العربي من المحيط “الهادر” إلى الخليج “الثائر”، وياضيعة الرجولة والأخلاق.

وقد لفت نظري – أيضا – في احترام غير المسلمين لدساتيرهم ما فعله رئيس وزراء هايتي جاري كونيل، الذي “لم يطب جنانو” حيث لم يتجاوز عمره خمسة وأربعين عاما.

لقد قدّم “الشاب” جاري كونيل استقالته من منصبه بعد أربعة أشهر من تولّيه ذلك المنصب بعد انتخابات شريفة ليس فيها مثقال ذرة من غش وتزوير وتحايل..

وأما سبب استقالته فهو أنه وجد مسؤولين هايتيين يحملون جنسية مزدوية (2) (فرنسية – هايتية)، وكم عندنا من هؤلاء في أعلى المناصب!!! ويا ليت فرنسا تحبهم، ولكنها تستخدمهم.. فهم “خدام”.. والمرء حيث يجعل نفسه.

لقد كنت وأنا أقرأ خبري الرئيسيين الكبيرين حقا، العظيمين حقا، الفخيمين حقا؛ كنت استعرض صور من يسمّون عندنا – نحن العرب والمسلمين – “رؤساء” وهم يضعون أيديهم… على المصحف الشريف، ويقسمون في مهرجانات فولكلورية متعهدين باحترام الدستور، وتطبيقه.. رغم أنهم لم يبدؤوا عهداتهم المفتوحة وغير المحدودة إلا بخيانة الدستور، ودوسه، وتغيير مواده لتساير أهواءهم الصبيانية والحيوانية، فأضحكوا المجانين عليهم، وأضحكوا الدول والشعوب علينا.

إن الأمر الذي يجعل الأكمه يرتدّ بصيرا، والأبكم يصير بليغا هو تلك الوجوه التي عليها غبرة، ولا تصلح جلود وجوها – لوقاحتها – إلا لصنع النعال، وهي تصفق لمن يسمون في عالمنا العربي “رؤساء”، وتهتف بحياتهم، وهم يعلمون أن أولئك “الرؤساء” لم يأتوا إلى الرئاسة لا بطرق شريفة، ولا بوسائل نظيفة؛ بل كانوا شهود زور، وفاعلي زور، فضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا بما زوّروا، وغشّوا؛ وكذبوا.. ولعنة الله على المزورين، والغشاشين، والكاذبين إلى يوم الدين؛ لأنهم أفسدوا حياة المسلمين.

هوامش:

❊) من معاني “عضير” الإيمان ببعض القرآن والكفر ببعضه..

1 – 2) جريدة الشروق اليومي، 27 – 2 – 2012. ص15.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى