الشيخ الغزالي يتحدث عن ابن باديس/أ.عبد الله بوفولة

قدر للشيخ الغزالي أن يزور الجزائر ويقيم في مدينة قسنطينة مدينة ابن باديس عاملا ومحاضرا في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بل إنه أسهم إسهاما لا يقدره ويعرفه له إلا الرجال العاملون المخلصون المختفون في تأسيس المناهج التي تسير عليها الآن طبعا لا ننسى جهد صاحبه وأخيه الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ونفع به وأطال في عمره وبارك له جهوده.. كما لا ننسى أن كلا الرجلين ينتمي لمدرسة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا رحمه الله.. غير أن الشيخ الغزالي كان قد خرج منها أو إن شئت فقل تمرد عنها بسبب خلافات مع سيد قطب ليس هنا مجال الخوض فيها.. ومن حق الشيخ الغزالي علي أن أذكر بعض ما كان لي معه – رحمه الله- ولا يعرفه الناس خاصة وأن الجيل الصاعد من الشباب يجهل التاريخ بل ويحتقر الناس و لا يرى نفعا سوى في الإمعان في العناد ويظن أنه وحده العارف العالم بالرجال ولو كان دلك عن طريق الكتب..

نحن يا شباب من الدين ساهموا في صنع هده الصحوة بنسبة يبقى تقدير نسبتها عند الله سبحانه وتعالى وتربينا في أحضانها وكابدنا ما كابدنا من أجلها هنا تحضرني طرفة كان الأستاذ داوود خليفة رحمه الله وقد رزئنا فيه في الصائفة الماضية تعجبه فكرة عندما أنفعل وأقول إنني من الدين صنعوا طرفا في هده الصحوة فيضحك أيما ضحك ويقول لي نعم وهو كذلك وأنا من الشاهدين..

دخلت إلى أحد الحوانيت لشراء بعض حاجتي فوجدت شابا يتكلم عن الغزالي و هو لا يعرفه إلا من بعض كتب قرأها له ولكنه يتحدث عنه بإعجاب وتقدير وهذا شيء جميل لأن الكثير من الشباب السائر في أحضان السلفية ولو كانت العلمية لا يقدره ولا يعبأ به بل يصفه بأوصاف لا تليق بالعلماء والدعاة والعاملين للإسلام هو لا يعترف بالعلماء الدين أنجبتهم الجزائر وما أكثرهم في مختلف الاختصاصات كالفقه والأصول والتاريخ والفرائض والرحلة والدعوة والتربية وغيرها طبعا لا ننسى الأدب والشعر والفكر وما إليها..

فأردت أن استدرجه بشيء من التجاهل والتغافل كعادتي وأنا صحفي محترف هذه هي فلاحتي وهذا هو أسلوبي في العمل والاستقصاء والتحقيق والمتابعة والجري وراء المعلومة للحصول عليها في أقصر وقت وبدقة متناهية بدون كذب أو سفسطة كما يفعل العلمانيون والشيوعيون والإباحيون الدين يبنون معلوماتهم وكتاباتهم على الكذب والافتراء والقذف.. فرأيت أن هذا الشاب ممن تغريهم المظاهر ويأخذون بظواهر الأمور ولا ينفذون من السطح إلى الأعماق وربما كنت أنا أفعل مثل ما يفعل لما كنت في مثل سنه وأخذ يركب رأسه ويسمي لي كتب الغزالي التي طبعت عندنا هنا في الجزائر وما قرأ منها وما لم يقرأه.. فقاطعته قائلا: هل قرأت كتابه في موكب الدعوة فأخذه السكوت وأضفت له لما أقول لك كتاب في موكب الدعوة أريد أن أقول في طبعته الأولى لا سائر الطبعات التي أتت بعدها وحذفت منها أشياء أنت لا تعرفها فعلت معه مثل ما فعل معي الشيخ الرغيوي حفظه الله وهو رجل من رجال جمعية العلماء وكان صديقا وفيا وحميما للأستاذ سليمان الصيد المحامي والمؤرخ القدير الراحل رحمه الله مع صديقهم الثالث سي بلقاسم وكان محافظا للشرطة ومجاهدا من المجاهدين الأطهار الأوفياء عندما دخلت ذات يوما وكنت شابا كثير التردد على المكتبات في قسنطينة وخاصة مكتبة البصائر لصاحبها علي رغيوة رحمه الله والمكتبة الإسلامية وكذلك المكتبة الجزائرية لصاحبها عمي عمر وتقع كلاهما في حي الأربعين شريفا وكنت ميالا إلى منهج الإخوان المسلمين المسيطرين في الجامعة آنذاك طبعا كانت عبارة عن موجة ما تفتأ أن تخبو تركها لنا المصريون الذين اضطرهم عبد الناصر إلى اللجوء على الجزائر هربا من البطش والتنكيل والملاحقات ومنهم الشيخ العوضي رحمه الله فكان الشيخ الرغيوي يحاول استمالتي بالعقل وبطريقة تربوية اكتشفت سرها بعد أن كبرت فالرجل قضى كل عمره في ممارسة مهنة التعليم واستقر به المقام مديرا بإحدى المدارس إلى أن بلغ سن التقاعد وشيئا فشيئا بدأت ابتعد عن هذا المنهج ثم لا ننسى فضل المربي العظيم الدكتور أحمد شرفي الرفاعي الذي قام بجهد كبير في تكويننا وأعني في تكوين جيل كامل في معهد الآداب بجامعة قسنطينة جيل أصبح فيهم الوزير كأبي جرة سلطاني نفع الله به في الموقع الذي هو فيه وفيهم الصحفي وفيهم الباحث الكبير والأستاذ وفيهم وفيهم كما لا ننسى الاحتكاك الكبير الذي كان بيني وبين حسن خليفة الذي نسميه الإمبراطور ونعني بالإمبراطور أنه يحلم بتأسيس إمبراطورية إعلامية كبيرة على غرار المؤسسات الإعلامية الكبيرة التي زرناها في القاهرة أو في غيرها من البلدان لعل الله أن يوفقه مع غيره من الإخوان لتأسيسها وإذا لم يقدر له تأسيسها وقد شارفنا على المغيب فقد أسس على الأقل وهو وبعض العاملين من أترابه الأهم والرسمي كما كنت أقول له دائما الرجال الكثيرين الذين سيؤسسونها حتما في المستقبل كما فعل ابن باديس ونحن نحيي ذكراه وننعم بالأفضال التي تركها لنا رحمه الله وجعله من المقربين.. وعلى فكرة أستسمح القارئ على هدا الاستطراد والتيه والسهو الذي كاد أن يبعدني عن لب الموضوع في الرجوع إلى بداية الحديث فأقول مرة أخرى من حق الشيخ الغزالي علي وكنت أحبه كما كان يحبه أبي رحمه الله ويتابع أحاديثه في التلفزيون الجزائري ويقول لي وكان يعتبرني دائما صغيرا لا أعرف ما يدور في هده الدنيا وكان يخاف علي من الانحراف الأخلاقي والفكري وكان يحذرني دائما من الابتعاد عن الجماعات وتنظيماتها وتطرفها ويقول لي دائما إننا مسلمون والإسلام متجذر في هده البلاد ولا داعي لأن تسمع لهؤلاء الدعاة الجدد أو على الأقل البعض منهم الدين يكثرون من الكلام عن الجهاد في دروسهم وخطبهم وكان يقصد مدرسين وأساتذة تابعين لجماعة جاب الله رئيس حركة الإصلاح حاليا المتمرد عليه من طرف فصيل من داخل حركته وكانوا يسيطرون على المساجد في الحي الذي كنت أقطنه ولا يسمحون بمن يخالفهم المنهج والرأي والتوجه بأن يدرس أو يناقش أو يحدث شوشرة من أي نوع كانت.. نحن نتحدث عن مرحلة الثمانينات أي قبل التعددية السياسية.. من حق الشيخ الغزالي رحمه الله أن أذكر بعض ما كان بيننا فلقد زرته في القاهرة بعدما غادر الجزائر وكان مريضا وكان رفيقي في الزيارة الأستاذ محمد ناصر الأطرش الذي يقيم في ستراسبورغ الآن ويقوم بدور عظيم في ديار الغربة دور يثقل كواهل الرجال العاملين صابرا محتسبا أعانه الله وسدد خطاه.. وعندما وصلنا إلى داره وأستاذنا فأذن لنا دخلنا فوجدناه مريضا فقمنا بواجب المواساة وعدناه وتجاذبنا معه أطراف الحديث ولكن ما أحببنا أن نثقل عليه ونطيل الزيارة فناولنا الحلوة وأخذنا له صور ولكن الطريف أن الرجل آية في التواضع والأخلاق وكنت حريصا على أن أفتك منه حوارًا طويلا ينفع الناس في الجزائر ويقضي على الافتراءات التي حيكت حول سبب ذهابه ومغادرة قسنطينة بعد أن استحسن المقام فيها واستأنس بأهلها..

فالرجل تقي وزاهد لا يحب أن ينهي حياته نهاية غير سعيدة ثم إن همه كبير وتطلعاته لا تحدها حدود فإذا ما وجد جوا موبوءا وتفكيرا سقيما وعقولا صغيرة انسحب بشرف وذهب إلى داره لعله ينفع بطريقة أخرى وهكذا كان..

نعم هل تعتقد أن الشيخ الغزالي يزوره إنسان من قسنطينة التي أحبها وأحب أهلها بما فيهم ابن باديس ويكون هدا الإنسان يمارس مهنة الصحافة ويتركه هكذا يعود خالي الوفاض كلا إن أخلاقه وتربيته ومروءته وتعامله مع الصحف والمجلات ودور النشر التي كان يكتب لها باستمرار وبدون انقطاع وبدون كلل أو ملل تأبى عليه أن ينحو هدا المنحى ويسلك هدا السبيل.. فما أن فهم قصدي حتى ابتدرني ووجدته قد انتهى للتو من كتابة مقال طويل عنوانه الشيخ الغزالي بقلمه فابتدرني هذا إليك يا عبد الله فأنت الذي تحظى بنشره لأول مرة وأكون بذلك قد أرضيتك فأعجبني الحال وكنت ألاحظ عليه بين الحين والآخر ارتعاش يحدث له في ذراعه الأيمن أو الأيسر والله لم أذكر ذلك جيدا فكان ذلك يؤلمني فكنت أشير إلى صاحبي وكان هو الآخر يشير لي بدوره في أن نختصر الزيارة لأن هدا الداعية العظيم يحتاج إلى الراحة فاستأذنا في الرحيل فأذن لنا وكان متأثرا أشد التأثر بالزيارة وبالتقدير الذي كنا نكنه له وتمنى لنا النجاح والسلامة وبقانا بالخير فكانت لحظات حبلى بالمواقف الحساسة جدا.. لما عدت إلى قسنطينة وإبراءً للذمة قدمت للمقال بكلمات قلت فيها أن الشيخ الغزالي سيعود وهو لم يقل لي أنه سيعود وأنا والله يعلم أنني ما فعلت ذلك إلا اجتهادًا وسعيا لتلطيف الأجواء التي كانت ساخنة في الجامعة في ذلك الوقت وكان الصراع يدور فيها بين تيارين واحد تيار جزائري أي الجزأرة وتيار الإخوان الذي له ارتباط تنظيمي بالتنظيم الأم في الخارج طبعا في مصر وفي غير مصر صراع على من يرأس الجامعة بعد أن أزيح عنها الدكتور عمار طالبي وهو محسوب طبعا على تيار الجزأرة.

وحديث الشيخ الغزالي عن ابن باديس الذي نورده بعد قليل عبارة عن حوار أجراه الأستاذ أحمد بوشبعة على هامش الندوة الفكرية التي جرت وقائعها في جامعة الأمير عبد القادر بمناسبة يوم العلم وكان عنوانها العلم والدين ونشرت يوم الخميس 17 أفريل 1986 بجريدة النصر: نص الحوار:

س1- ما مكانة ابن باديس في النهضة العربية الإسلامية؟
ج1-أحد القادة الرواد الدين حاربوا الاستعمار الثقافي بقدرة ونجاح، وأثره مقدور ومشكور في العالم العربي كله لا في الجزائر وحدها، ونحن نعتبره طليعة موفقة مباركة في خدمة الإسلام وأمته.

س2- هل من مقارنة بين ابن باديس وإصلاحه في الجزائر والمغرب العربي، ونضال رواد النهضة في المشرق العربي؟

ج2- الشبه قائم ولا يمكن إنكاره وقد عاصرت نهضات إسلامية كثيرة في مصر ودمشق وفي مكة وبغداد وبقية العواصم العربية، فوجدت أن الشبه مشترك، لأن المنبع واحد ولأن الآلام متشابهة ولأن طريقه في الجهاد الذي رسمه الإسلام، وحد بين الأوائل والأواخر والمتعاصرين في طريق النهضة والهدف الذي تشتاق إليه الجماهير.

س3- ابن باديس العالم والمجاهد والمضلح اقتلع الاستعمار من جذوره الأولى، بما قدمه من التعبئة والتوحيد والإعداد لأفراد الشعب في مواجهة المحتل الغاصب، حدثنا ولو بإيجاز عن ابن باديس كمصلح وثائر؟.

ج3-أنا لم أستمع إلى ابن باديس لأني لم أعاصره ولكن قرأت له تفسيره، وهو تفسير دقيق يدل على إحاطة الرجل بعلوم القرآن الكريم واستيعاب لهداياته، كما قرأت شروحه للسنة النبوية، فقد كان متصلا بروح الرسالة وبالنبي صلى الله عليه وسلم ومقتفيا لآثاره، الرجل يجمع بين الأدب لأن عباراته في الدرجة الأولى من البيان السليم ويجمع إلى جانب أدائه العربي التحقيق العلمي والحس التاريخي والرواية الدقيقة لتاريخ المسلمين، وحساب الاقتباس منه، جهل الأمة الجزائرية تنهض من كبوتها وتؤدي حق الله عليها في محاربة الاستعمار الذي نكبت به، وقد نجح الرجل فعلا، ويمتاز الاستعمار بأنه يجمع بين الغزو العلمي والأدبي والاقتصادي العسكري وهو استعمار مضاعف الأوزار، على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فالرجل استطاع أن يواجه هدا الاستعمار المضاعف القيود. ونجح في تعبئة أناس كثيرين يحملون علم الحرية واستطاع كذلك أن ينجح في إبقاء الشخصية الجزائرية مسلمة وعربية وهذا هو قمة التوفيق.

س4- الجهود الإصلاحية في أحوال المسلمين في عالم اليوم هل هي كفيلة بضمان المكانة والوجود الحضاري المتميز لأمة الإسلام أم أن الأمر يحتاج إلى مجهود آخر كيف وما الوسيلة؟

ج4- الذي لاحظناه أن الصحوة الإسلامية استيقظ لها أعداؤها على عجل وضاعفوا العوائق أمامها، ومن هنا فإن الدين يقومون بالصحوة أن يضاعفوا إلى التبعات الأولى العوائق الجديدة المضاعفة إلى التبعات الأولى حتى يستطيعوا أن ينجحوا في هده المعركة الضارية. إن أعداءنا كأنما هم يحققون قوله تعالى لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعواً. فيجب أن لا نتوقع هدنة منهم، ويجب أن تستعد دائما للكفاح في ميادين لا حصر لها حتى نستطيع أن نبلغ أهدافنا التي رسمناها لأنفسنا أو التي يقودنا القدر إليها.

س5- إلى أي حد وصل الاهتمام بدراسة وبحث آثار ابن باديس في المشرق العربي؟ وكيف كنتم تنظرون إليه في الثلاثينات؟

ج5- ابن باديس كبقية القادة العرب والمسلمين لم يظفروا بالتقدير الذي يستحقه، لأن العرب كما قال مبتلون بالنسيان وخصوصًا نسيان القادة الكبار، وموقفنا من التاريخ الإسلامي إلى إعادة نظر لأن أبطالنا كثيرون ومع ذلك سمحنا للتراب أن يهال عليهم، فلم نحسن اقتناء آثارهم ولا تجديد سيرهم ونحن أولى الناس بأن ننتفع بتراب الآباء والأجداد، ابن باديس كما قلت كتب عنه كتاب أو كتابين بينما كتب في نابليون بونابرت نحو مائتي كتاب لماذا لأن هؤلاء يقدرون رجالهم أكثر مما نقدر نحن عظماءنا إلى الآن مالك بن نبي في الجزائر وابن باديس وأحب أن ألفت النظر إلى الشيخ البشير الإبراهيمي وهو من علماء الجزائر أو ممن كانوا يعملون مع ابن باديس، عندما قدم إلى القاهرة لم يوضع في مجمع اللغة العربية من باب التشريف أو إكرام زائر غريب له مكانة في بلده.. الرجل كان موسوعة لغوية، وكان من أقدر الناس على الخطابة بأسلوب بلغ به القمة في الأداء وفي إحياء التراث الأدبي. هل يستطيع المعاصرون أن يحيوا مثل هده الذكريات وأن يجعلوها أمام الأجيال التي ننشئها الآن وسط مقاومات كبيرة للإيمان وللأصالة وللتراث الصحيح، لا تزال أمتنا بحاجة إلى أنشطة مقوية في هدا الموضوع.

س6- ما هي أحسن هدية تقدم لهدا الرجل العظيم في ذكراه؟

ج6- أحسن هدية في نظري أن الجامعة الإسلامية في قسنطينة تتسع دائرتها وتتفتح أمامها الميادين، لتخدم رسالة ابن باديس وهي رسالة الإسلام وهي الرسالة التي من أجلها أنشئت جمعية العلماء. فإن حاضر الجزائر يجب أن يكون موصولا بماضيها والغرس القائم يغذي من هدا الماضي لأن عناصر الخصوبة فيه هي التي تمنح النمو وتمنح النضج وتمنح حلاوة الثمار.

Exit mobile version