سطيف العالي والإبراهيمي الغالي/د.عبد الحفيظ بورديم
سطيف بلدة طيّبة مثل ساكنيها، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن باريها. فيها من جلال هضابها ما يعجب زائريها، وفيها من دماثة ساكنيها ما يزيد في أعاليها. هي مضرب مثل في ابتغاء الحرّية، وهي مضرب مثل في انتصار القضيّة. خرجت يوم الثامن عن بكرة أبيها، تنجز الوعد فسالت الدماء في روابيها. فما وهنت ولا فلّت عزائمها، بل زادتها اعتزازا واشتدّت مكارمها. وأخرجت -بإذن ربّها- محمدا البشيرا، لا يرتضي البيانُ غيرَه نظيرا. إبراهيمي الحسب، إدريسي النسب.
وفي الخلَف فتيان عدول، يُحْيُون مجدا أعلاه الصيد البهاليل. عليّ وظريف والنوري وبوضياف ويلّس ومخلوف…وغيرهم من الأخيار، كأنهم ألوان من بديع الأنوار. تشعّ وجوههم بالابتسامات، ويملأون سطيف بالخيرات. تعجب لظريف حين يروي عن الإبراهيمي فما ينسى، ويشدّك كلام عليّ الطبيب حين يبين فلا يأسى. وتفرح بيلّس حين ينظّم فلا يعيى، وتشهد مخلوفا حاضرا فلا يخفى، وترقب النوري في الصفّ الأوّل، وبوضياف المفضال المتفضّل. هم فئة ممّن قصصنا، وما أكثر الذين سعوا، وما ذكرنا. ولكلّ أجر العاملين وسعي الساعين.
ساقني القدر إليهم محاضرا، حين نظّموا ملتقى للإمام الابراهيمي زاهرا. أرادوه أن يكون عن سيرة العالم المجدّد، وأردت أن يكون حديثي عن السياسي المجتهد. وقلت لولا يسترشد به المتأخّرون، لعلموا السياسة ضوابط وأخلاقا يلتزم بها العاملون. فإن جهلوها سقطوا في الحمأة مضرّجين، وأسقطوا معهم الأمّة سقوطا مهينا. وسمعت من أحيا خلاف البيان الثائر، فقلت لولا رجعوا إلى صحيح الرواية من البصائر.
كان ملتقى –مثل- صاحبه عظيما، تزاحمت فيه الأفكار تزاحما عميما. وتنوّعت به الردود والسّجالات، فحييت في ظماء العقول الرغباتُ. وكم في البلاد من نفوس تتوق، ولكن يمنعها العاديّ المألوف ويعيق. وكم في البلاد من شباب يهفو، ولكن تخونه القدوة والمبادرة فيغفو. وهذه سطيف مرّة أخرى تؤتـي أكلها وتثمر، فطوبى للجزائر بها حين تورق وتزهر.
وزاد روعة التنظيم الباهر، أن استجاب الأخ الطيّب لرغبة الزائر. سألناه – أنا والشيخ آيت سالم- أن يأخذنا إلى بيت شهد ميلاد العالم. فاستجاب لنا مشكورا، وطاف بنا المعالم مذكورا ومشهورا. قضينا سويعات في بيت آل بن بيبي، وقد صيّروه متحفا للحدث الحبيب. كانوا ثلاثة يأوون إليه، ابن باديس والإبراهيمي وصاحب المجمع، يتدارسون كتاب الله والمجتمع. ومن جميل آياته مخطوط المصحف، الذي ضاع منهم أربعين سنة ونيّف. كان جرابه فضيأ فاستهوى سارقا، ولمّا وجده قرآنا بارقا، تاب من فعلته وهزل من شديد الحياء، ثمّ أرجعته –بعد وفاته- زوجه على استحياء.
ثمّ يمّمنا شطر أولاد ابراهم، وقد اصفرّت الشّمس كصحيح الدّراهم. صلّينا المغرب والعشاء جمعا وتقصيرا، ثمّ قصدنا بيتا من الحجارة صغيرا. لا يكاد يتّسع لفئة قليلة، ولكنّه اتسع لعبقريّ القبيله. باب خشبيّ وسقف هرميّ وجدران أربعة لا تزيد وأرض صلدة من حصباء تؤود. شهدت ميلاد طفل متّقد، أدّبه عمّه فأخذه بالعلم النافع المسعد.
فهل تحسن جامعاتنا العديدة، أن تخرّج إبراهيميا واحدا ولو بعد سنين بعيدة؟ حقّا إنّ لله عطاء، يصيب برحمته من شاء. فيخرج من الكوخ الفقير، عالما وأيّ عالم نحرير.