مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

الأمير خالد الجزائري في ذاكرة الصحافة الإصلاحية /أ.د مولود عويمر

يعتبر الأمير خالد- حفيد الأمير عبد القادر- في نظر العديد من المؤرخين أول زعيم سياسي جزائري في القرن العشرين ناضل سياسيا لاسترجاع كرامة الجزائريين، ونقل مطالبهم المشروعة إلى كل المؤسسات المسؤولة في الجزائر وفرنسا والهيئات الدولية، وأصر على الاستجابة لها. وقد حاولت الشخصيات والحركات الفاعلة الجزائرية أن ترسخ جذورها في تراثه لتعمق وجودها في أرض الواقع، وتجذب إليها قلوب الناس. فما هي علاقة الحركة الإصلاحية بالأمير خالد؟
سأقتصر في الإجابة في هذا المقال على صلة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالأمير خالد من خلال مجلة الشهاب وجريدة البصائر.

محطات في مسار الأمير خالد:
نشرت مجلة الشهاب مقالا طويلا بدون إمضاء عنوانه: » الفقيد العظيم الأمير خالد الهاشمي«. ونسبه الدكتور علي مراد للشيخ عبد الحميد بن باديس وانطلق منه لكتابة بحثه حول »الأمير خالد كما تصوره ابن باديس« والمنشور في مجلة الغرب الإسلامي والبحر المتوسط. بينما نسبه الأستاذان محفوظ قداش ومحمد قنانش لأحمد توفيق المدني في كتابهما: » نجم الشمال الإفريقي 1926-1937«. وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير لأن أسلوب المقال لا يشبه أسلوب ابن باديس، والمدني تعمد عدم ذكر اسمه لأنه مازال آنذاك غير متحصل على الجنسية الجزائرية، وكان في نظر السلطة الاستعمارية سياسيا تونسيا منفيا إلى الجزائر، يمنع من جراء ذلك أداء أي نشاط أو من الإدلاء بتصريح سياسي مباشر.
ومن يقرأ هذا المقال يجد فيه إلماما واسعا بحياة الأمير خالد في تفاصيلها الدقيقة، ومتابعة ثاقبة لمساره النضالي. واستوقفتني فيه نقطتان: الأولى تتمثل في الرسالة التي قدمها الأمير خالد إلى الرئيس الأمريكي ولسن في ماي 1919 في خضم مؤتمر فرساي، فذكره بمبادئه الأربعة عشر التي تبنى فيها حق الشعوب في تقرير مصيرها. وطمع الأمير خالد وكل زعماء الحركات التحررية في مساندة الرئيس الأمريكي لمطالبهم المشروعة. غير أن جهودهم وجدت آذانا بريطانية صماء وقلوبا فرنسية قاسية. وبقيت هذه الرسالة التي ذكرها صاحب المقال مفقودة حتى أنكر البعض وجودها، واعتبروها أكذوبة سياسية، ولم تنشر إلا في عام 1980 من طرف باحث فرنسي.
أما النقطة الثانية فتتمثل في نفي الأمير خالد إلى سوريا في عام 1925، وهي مسألة مازالت مطروحة، واختلف حولها المؤرخون. فالمؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون يرى أن الأمير خالد هو الذي غادر الجزائر بمحض إرادته بعد أن فشل في نضاله السياسي وفضل الانسحاب من المعركة. بينما يؤكد الدكتور محفوظ قداش أن السلطة الفرنسية هي التي أقدمت على نفيه بعد أن بزغ نجمه في الجزائر.
فما هو رأي الأستاذ أحمد توفيق المدني في هذه المسألة؟ إن الأمير لم تنفه السلطة الفرنسية في نظره، وإنما هو الذي اختار الهجرة إلى الشام بعد أن استقر الرأي عنده أن بقاءه في الجزائر » قد أصبح عديم الجدوى«، وأن بإمكانه خدمة قضية أمته بحرية كبيرة في الخارج بعيدا عن الضغوطات المختلفة، وليس هروبا من الكفاح الوطني.
وكتب الشيخ باعزيز بن عمر عن معاناة الأمير خالد وهو يدافع عن وطنه من طرف الفرنسيين وبعض منافسيه السياسيين الجزائريين التواقين إلى الزعامة الزائلة. إلا أنه استطاع أن يمضي قدما في نضاله بفضل صلابة رأيه، وقوة إيمانه وصراحة قوله. وهي الصفات التي جعلته محبوبا ومحترما بين قومه في بلده وغربته، في حياته ومماته.
تأبين الأمير عبر القطر الجزائري:
توفي الأمير خالد يوم 9 جانفي 1936. إلا أن البصائر لم تنشر الخبر إلا في 31 جانفي أي بعد مرور 3 أسابيع على وفاته. ويعود السبب في هذا التأخير في نظر رئيس التحرير الشيخ الطيب العقبي إلى التريث للتأكد من صحة الخبر قبل الإعلان عنه، وتجنب الوقوع في شباك الإشاعات المغرضة التي كثيرا ما حاولت تشويه سمعته الحسنة.
ونوّه الشيخ الطيب العقبي بأعمال الأمير خالد ودعا إلى إحياء ذكراه بما يليق بمقامه كشخصية بارزة ” لها محلها الأرفع في قلوب الأمة الجزائرية ومكانها اللائق بها في تاريخ هذه الأمة ورجالها الأفذاذ العاملين.” وحذر من كل من يعيق هذا العمل قائلا بثقة كبيرة:” فلن تقدر تلك السياسة وتلك المقتضيات اليوم على كم الأفواه، وخنق الأصوات بالحديث عنه وإظهار ما تكنه القلوب من المحبة له والتقدير لجليل أعماله وكبير تضحياته في سبيل هذه الأمة ومحبته لهذا الوطن.”
ونظمت عدة حفلات التأبين عبر التراب الجزائري، وأدى الناس صلاة الغائب عليه. ونقلت الشهاب أخبارا عنها في عنابة وسكيكدة بشيء من التفصيل حيث نشرت الخطابات التي ألقيت خلالها. بينما اقتصرت على الحديث عن تأبينه في قسنطينة بإشراف الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أمّ المصلين ، وألقى بهذه المناسبة خطابا مؤثرا. لكن المجلة لم تكشف عن مضمونه بل اكتفت بهذه الجملة» ألقى خطابا في الوعظ وتأبين الفقيد«، ولم تنشر هذا الخطاب كما فعلت مع الخطابات التي ألقيت في عنابة وسكيكدة التي أشرنا إليها من قبل. وإنما لفتت الانتباه إلى حضور قوي لأعوان الأمن وعيون الإدارة الاستعمارية وسجلت غياب العلماء الرسميين.
ساعة الشعراء والأدباء:
نشرت البصائر 3 قصائد لشعراء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهم: محمد العيد، وحمزة بوكوشة ومبارك جلواح.
نظم الشيخ محمد العيد قصيدة عينية متكونة من 45 بيتا، منها الأبيات التالية:
واليوم يا طرف فاذرف منك الدموع تباعا
ابك الزعيم المفدى ابك الأمير المطاعا
ابك الكريم المرجى ابك الغيور الشجاعا
ابك الجليل مزايا ابك الجميل طباعا
وكتب الشيخ حمزة بوكوشة قصيدة عنوانها: “عبرة في مماته وعظات” تتكوّن من 18 بيتا، ختمها بالبيتين التاليين:
أيها الراحل العظيم لقد خل فت ذكرا مخلدا وثناء
نم هنيئا وان جفتك الموالي فستلقى عند الإله جزاء
أما الشاعر مبارك جلواح فقد نظم قصيدة طويلة في رثاء الأمير خالد عنوانها “عز الجزائر” إلا أن البصائر اكتفت بنشر 7 أبيات فقط، استهلها بهذين البيتين:
عز الجزائر في أعز حماتها وأبر خادم مجدها وعلاها
الأصيد الباني منار رجالها والأوحد القاضي شهيد هواها
كما وصلتها مساهمات كثيرة غير أنها اعتذرت عن نشر بعضها لأنها جاءت متأخرة مثل مقالات: بلقاسم بن أرواق، وعمر بوعناني ومحمد الصالح بودرقة والسيد جغابة فدعتهم إلى الكتابة في القضايا الهامة الأخرى، بينما رفضت الأخرى لأنها لا تستحق النشر، فأرشدت أصحابها إلى الزيادة في التعلم، وتحسين مستواهم ثم الشروع في الكتابة.
ولكن البصائر لم تلتزم طويلا بهذا الموقف، حيث سرعان ما عادت إلى موضوع الأمير خالد، ونشرت مقالا للكاتب أحمد مظهر العظمة مقتبسا من مجلة التمدن الإسلامي الدمشقية. فلماذا غيرت رأيها بعد أن رفضت مقالات المثقفين الجزائريين؟
هناك في رأيي سببان: كانت البصائر تحرص دائما على اقتباس مختارات من الصحف الشرقية ليطلع قراؤها على آخر المستجدات في عالم الثقافة والسياسة. وفي هذا السياق أرادت أن تطلعهم على ما كتبته هذه الجرائد عن فقيد الجزائر والعروبة والإسلام.
أما السبب الثاني فيتمثل في الرغبة في إبراز صفحات مشرقة من السنوات الدمشقية للأمير خالد والتي يجهل الجزائريون الكثير عنها.
ومما نقله الأستاذ العظم مقارعة الأمير خالد للمثقفين الفرنسيين أو المتفرنسين الذين يهاجمون الإسلام ومقدساته في كتاباتهم ومحاضراتهم. وقد ساعده في جهاده فصاحة لسانه الفرنسي، وبلاغة حجته، وقوة جرأته حتى يخيل لمستمعيه أنه أمام ميرابو خطيب الثورة الفرنسية. وقال الأستاذ العظم أنه شارك في جنازته التي حضرها جمع غفير من الناس حتى ضاق بهم المكان على سعته.
وبادرت الشهاب إلى إعطاء هدية للقراء مرفقة بالعدد الصادر في فبراير 1936، وهي عبارة عن صورة للفقيد، وكتبت تحتها هذه الأبيات الأربعة للشاعر محمد العيد:
سيذكرك الشعب دهرا مديدا فأنت لأبنائه والد
وأنت -قريبا لهم وبعيدا وحيا وميتا لهم- قائد
نودع فيك زعيما وحيدا لنا مجده طارف تالد
خلدت جميل الثناء حميدا ففي ذمة الله يا خالد
هذه صورة الأمير خالد باختصار كما رسمتها الشهاب والبصائر، فهو الزعيم السياسي ورائد الحركة الوطنية في القرن العشرين، خدم بلده ودينه وأخلص لشعبه وأمته، فعاش خالدا باسمه، ويبقي خالدا بأعماله.
• أستاذ التعليم العالي بجامعة الجزائر
• عضو المكتب الوطني لجمعية العلماء الجزائريين مكلف بالتراث والبحث العلمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى