مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

الفكر التربوي الباديسي -الحاضر الغائب / د.عبد القادر فضيل

الفكر التربوي المنسوب إلى الإمام عبد الحميد بن باديس هو الموضوع الذي أعالج بعض جوانبه في هذه الكلمة، وأثير مع القراء أهم الأفكار التي تلقي الضوء على شخصية ابن باديس العلمية، وعلى فلسفته في مجال التربية، تلك الفلسفة التي تُستخلص من آرائه وأقواله، التي كتبها ودرسها، وشرحها لطلاب المعرفة، وكذلك الأعمال العلمية التي أنجزها حين نصب نفسه معلما ومربيا ومفسرا، وداعيا إلى الله ومقاوما للضلالات والانحرافات.

وقد يتساءل المرء وهو يقرأ هذه الأفكار عن طبيعة تفكير ابن باديس، أهو تفكير ديني ممتزج بالتفكير الفلسفي؟ أم هو تفكير سياسي ممتزج بالتفكير الديني؟ أم هو تفكير تربوي في الأساس وله أصول دينية فلسفية سياسية ؟

وأيا كانت الإجابة، فالمعروف عن ابن باديس أنَّه شخصية متعددة الجوانب، وأبرز هذه الجوانب وأوضحها، هو الجانب التربوي التعليمي الذي كرَّس له (27) عاما من حياته متطوعا، إلى جانب المهام الأخرى التي كان يرى أنَّها مهام مكملة للنشاط التعليمي، أو هي امتداد له.

ومن الباحثين من يرى أنَّه عالم ديني، ومصلح اجتماعي، ولكنَّه اتخذ من التربية وسيلة لشرح أفكاره وتنفيذ مشروعه، فهو في نظر البعض فيلسوف في هذه المجالات، ومنهم من لا يريد أن ينسبه إلى الفلسفة باعتبار الفلسفة بناء فكريا نظريا، نتائجه ظنية احتمالية، ولأنَّ البحث الفلسفي المحض ينطلق من تصورات مجردة تقوم على الجدل، الذي ليس له غاية نفعية آنية يستفيد منها عموم الناس.

وفلسفة بهذا المفهوم لا تنسجم مع طبيعة شخصية ابن باديس، واهتماماته التعليمية، ونشاطه التربوي العلمي، ولكننا مع ذلك لا نستطيع، أن نجرده من التفكير الفلسفي الذي يتناسب مع روحه الدينية، واتجاهه الأخلاقي، ومهامه الإصلاحية، ومن هنا يمكن القول: إنَّ الفلسفة التي نستطيع أن نجعلها أساس تفكيره هي الفلسفة التي لا يجنح فيها العقل إلى التصورات المجردة، والتأملات الحالمة، والمسائل النظرية البحتة، التي لا تتصل بواقع الناس، ولا تسهم في حل مشكلات المجتمع.

وهكذا يتبين أنَّ الفلسفة التي نجعلها سمة من سمات التفكير الباديسي، مستمدا منها، هي الفلسفة التربوية العملية، التي كان نشاطه كله مستمدا منها، فهي التي تحرك اهتمامه، وترسم له النهج الذي يسير فيه، لأنَّها تستهدف في توجيهاتها معالجة مكونات الإنسان وضبط المحتويات المعرفية والأخلاقية التي تتلاءم مع حاجات الإنسان وواقع معيشته.

ويعني ذلك أنَّ هذه الفلسفة تستخدم العقل والإيمان معا، وتستمد مكوناتها من الإسلام، ومن الحقائق الحياتية التي تعيش في وعي الإنسان وفي فكره. إنَّ غاية ما يهدف إليه هذا التصور هو: إعادة تشكيل الشخصية الوطنية، ومدُّها بالروح الدينية التي تكسبها القدرة على الفعل.وهذا هو الاتجاه الذي رآه ابن باديس الطريق الأمثل والموصل إلى الغاية التي كان يتوخاها من نشر التعليم، وهي إحداث التغير الإيجابي في واقع الأمة، وتهيئة الأجيال لوضع معالم المستقبل.

لقد اختار ابن باديس في نشاطه الإصلاحي التعليم أسلوبا من أساليب المقاومة والتحدي، فاعتمده السلاح النافذ في مواجهة سياسة المستعمر التي كانت مكرسة لتفتيت الوحدة،  وطمس المعالم الثقافية، ومسخ القيم الدينية الوطنية، بهدف فصل

المجتمع عما يربطه بثقافته ودينه ولغته، حتى تنشأ الأجيال نشأة ممسوخة في كل شيء.

لقد كان حلمه الكبير إقامة مجتمع إسلامي يعيش مع القرآن، وينظم حياته وفق أخلاق القرآن، وكان سعيه الدائم من أجل تحقيق هذا الحلم، هو إيجاد الظروف العلمية التي تساعد على بناء مشروع ثقافي تربوي، ينير حياة الأمة، ويعيد لها مجدها ويقظتها، ويبعث الحيوية في نفوس أفرادها، ويدفعهم إلى محاربة اليأس والجمود والغفلة لكي يشقُّوا طريقهم إلى النهضة.

هذه بعض السمات المميزة لتفكير ابن باديس، التي جعلته بحق من المربين المُلمِين بقضايا التربية وحقائق التعليم، والسمة البارزة في هذا التفكير هي الطرح الواقعي للقضايا التربوية، والالتزام بالدين، والرجوع إلى العقل في تناول المسائل التي يطرحها الميدان.

مكونات الفكر التربوي الباديسي

لابد من الإشارة هنا إلى أنَّ ما تركه ابن باديس من آراء وأقوال وتصورات في مجال التربية، هو المصدر الذي نستلهمه في تحديد مكونات الفكر التربوي عنده، والذي نركز عليه في هذه الكلمة، وفيما يلي أهم المحاور التي يستخلص منها هذا الفكر.

1-   الآراء والأقوال التي يعالج بها قضايا التربية.

2-    المبادئ والاتجاهات التي تؤسس مشروع التربية كما يتصوره.

3-   الأهداف والغايات التي تصورها وتصور من خلالها كيف يُعدُّ الإنسان الذي يريده المجتمع.

4-   المضمون التعليمي الذي هو جوهر العملية التعليمية والتربوية، وأساس بناء الإنسان.

5-   الطرائق والأساليب التي تعتمد في تنفيذ العملية التعليمية.

في هذا الباب نستعرض أهم المعلومات المتعلقة بمضمون هذه المحاور من خلال أقواله وكتاباته وأعماله.

ولنبدأ بالتصورات التي تعالج المفاهيم المتعلقة بالتربية والتعليم والمعرفة والعلم والإنسان، أي؛ بالعناصر التي يشملها موضوع التربية فكرا وعملا.

أولا: مفهوم التربية عند ابن باديس

التربية في نظر ابن باديس هي ما يحدثه النشاط التعليمي من تغيير إيجابي في جوانب شخصية المتعلم، في فكره ولسانه ووجدانه وسلوكه، بحيث يجعله يتلقى تربية شاملة تعزز ارتباطه بدينه ولغته، وتعمق شعوره بالانتماء إلى الوطن والتاريخ، وتجعله يحافظ على شخصيته، وهذا المعنى محدد في القانون الأساسي الذي وضعه ابن باديس لتأسيس جمعية التربية والتعليم، إذ ورد فيه ما يلي:

« بني القانون الأساسي للجمعية من الوجهة التربوية على تربية أبناء المسلمين وبناتهم بالمحافظة على دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ومن الوجهة التعليمية على تثقيف أفكارهم بالعلم باللسانين-العربي، والفرنسي- وتعليمهم الصنائع»، (المهارات) فهو يربط بين التربية والتعليم، ويجعلهما متلازمين.

ويؤكد البشير الإبراهيمي المضمون الكامل لهذا القانون، فيشير إلى أنَّ القانون ينص على تربية أبناء المسلمين تربية إسلامية عربية، تحفظ عليهم دينهم ولغتهم وشخصيتهم، وتهذب أخلاقهم، وتثقف أفكارهم، وهذه هي الغاية التي كان يسعى إليها ابن باديس.

وحين نحاول استخلاص ما يتضمنه طرحه لموضوع التربية نجده يلخص التربية في كونها جهدا إنسانيا هادفا يوجه لرعاية الفرد والمجتمع، ويسعى لبناء الفكر وتثقيف العقل، وتقويم الأخلاق من أجل تحقيق الغاية التي يتطلع إليها الإنسان، وهي بلوغ الكمال الإنساني، ويتجلى هذا المعنى في قوله: «إنَّ ما نأخذه من الشريعة المطهرة؛ علما وعملا، فإنَّنا نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية، والمثال الكامل لذلك هو حياة سيدنا محمد قفي سيرته الطيبة»(2).

والتطلع إلى الكمال من الطبائع التي جُبِلَ عليها الإنسان، ولكن القدرة على تحقيقه ليست متوفرة لدى كل واحد، وهنا تأتي مسؤولية التربية التي عليها أن تبعث الطموح في نفوس الناس، وتوضح لهم حدود الاستطاعة البشرية ، وتكسبهم القدرة العلمية على بلوغ الكمال الممكن والمشروع.

التعليم في نظر ابن باديس

التعليم هو النشاط الفكري الهادف الذي يبذله المعلم بقصد تنظيم مواقف التعلم، وجعلها أمام التلاميذ ليتفاعلوا معها، ويستخلصوا منها ما يقودهم إليه جهدهم من معارف وخبرات، والتعليم عند ابن باديس هو عمل العلماء الذين أوجب الله عليهم هداية الناس وإرشادهم إلى النهج الحياتي الذي رسمه الإسلام، فالتعليم الذي يمارسه العلماء أهم وظيفة أسندت إلى جمعية التربية والتعليم، كما ورد في قانونها الأساسي.

فالتعليم عند ابن باديس ليس مجرد تلقين المعارف من غير أن يكون لذلك أساس فكري أو غاية تربوية واجتماعية، إنَّما التعليم عنده رسالة تربوية هادفة غايتها بناء الذات الإنسانية وإعداد الفرد للحياة التي تنتظره، لأنَّ المحتوى المعرفي الذي يقدم للمتعلمين هدفه إكسابهم الصفة الأدائية والسلوكية- أي الأثر الفكري والأخلاقي الذي تحدثه المعرفة – وهو الهدف المرجو من التعليم.ومن ثمَّ فوظيفة التعليم تتجاوز الاقتصار على تلقين المعارف وتعليم وسائل اكتسابها إلى تربية الإنسان تربية شاملة، وهو حين يتحدث عنه لا يفصله عن التربية بل يجعله أحيانا مرادفا لها، وهو المفهوم الذي استعمله القرآن.

نظرة ابن باديس إلى المعرفة

المعرفة: هي مادة التربية وأداة التثقيف، لذلك يعتبرها ابن باديس الوسيلة الضرورية التي يجب تحديدها بدقة عند بناء المناهج، إذ هي التي تؤهل المتعلمين إلى ما ينتظره النظام التعليمي، فالمعرفة التي دعا ابن باديس إلى تلقينها للناشئة هي المعرفة التي ترسخ الإيمان وتعصم الاعتقادات من الانحراف، والأخلاق من الفساد، والفكر من الضلال، وتفيد الناس في حياتهم الدينية والدنيوية، ويعني هذا أنَّ المعرفة التي توجه الجهود لنشرها، هي المعرفة الشاملة التي لا تختص بمجال حياتي واحد.وهي تتجاوز المعرفة الخاصة بأمور الدين واللغة والتاريخ إلى علوم الأكوان والعمران كما يسميها، أي المعرفة التي تجمع بين ما ندركه عن طريق الأدلة النقلية وما ندركه عن طريق الأدلة العقلية والحسية، أي المعرفة التي ترتقي إلى مستوى العلم، والعلم عنده هو إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة؛ سواء كانت تلك البينة حسا ومشاهدة أو برهانا عقليا، لذا يلوم العلماء الذين حصروا جهودهم في الاهتمام بالعلوم الدينية، وأهملوا في نشاطهم وأبحاثهم العلوم الحديثة التي أفادت أوربا وأوصلتها إلى ما هي عليه.

مفهوم العلم عند ابن باديس

العلم في نظر ابن باديس أعم من المعرفة أو هو المعرفة الصحيحة، فَكَلِمَةُ العلم كلمة جامعة لأشكال المعرفة التي

تنطبق على حقائق الدين وعلوم الحياة، فالعلم عنده هو الأساس الذي تقوم عليه العقيدة وتبنى عليه الحياة، لذلك يقول: «العلم وحده هو الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات»(3)، ويعني أنَّ أي سلوك فعلى أو قولي أو اعتقادي إذا لم يقم على أساس العلم – المعرفة الصحيحة التي ترشد الناس إلى روح هذا السلوك – فإنَّه يكون سلوكا ضالا أو باطلا أو خاليا من كل منفعة(4)، يقول ابن باديس: «من دخل في العمل بلا علم لا يأمن على نفسه من الضلال، ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال»(5).وقد استنبط هذا الحكم من معنى الآية الكريمةﮋ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ  ﯷ ﯸ ﯹ  ﯺ ﯻ   ﯼ ﯽ         ﯾ ﯿ ﰀ  ﮊ(الإسراء: 36).

فالقرآن في هذه الآية ينهانا عن اتباع ما ليس لنا به علم سواء في القول أو الفعل أو الاعتقاد.

ويذكر العلماء أنَّ هذه الآية جامعة لأصول النظر العلمي، ففيها أمر بالمشاهدة الصحيحة والتفكير الصحيح، وفيها حَثُّ الإنسان على التمسك بما يصل إليه من حق أو حقيقة عن هذين الطريقين؛ المشاهدة والتفكير(6)، والعلم الذي يرقى إلى مستوى العبادة هو العلم التطبيقي.

نظرة ابن باديس إلى الإنسان «موضوع التربية»

الإنسان الذي اهتم به ابن باديس وجعله محور خطته التعليمية وهدف مشروعه الإصلاحي، هو الإنسان الذي يعيش في واقعنا ويتفاعل مع أحداث عصرنا، وليس الإنسان المطلق المجرد عن الزمان والمكان، الذي لا نستطيع أن نجد نماذج منه في حياتنا.

فنظرة ابن باديس إلى هذا الإنسان نظرة واقعية لا تجزئ حقيقته ولا تختصرها في بعد واحد من الأبعاد المكونة لهذه الحقيقة، بل تشمل جميع ما يكون به الإنسان إنسانا، تشمل الفكر والروح والدوافع والاعتقادات التي تحصل عن طريق التعلم وإعمال الفكر، وكذلك الأعمال التي يمارسها الفرد، فالإنسان – في نظر ابن باديس – كلٌ متكامل؛ فكر وغريزة وعقيدة وعمل، ويوضح هذا المعنى فيقول:«إنَّ الإنسان إنَّما هو إنسان بفكره وغرائزه وعقائده وأعماله المودعة كلها في جزئه المحسوس الفاني وهو الجسد، وفي جزئه المعقول الباقي وهو الروح، وبهذه الأصول الأربعة ينهض الإنسان أو يسقط»(7).

ومن هنا كان الإنسان في فلسفته محور كل تغيير وأساس كل نهضة، وقد أقام البرهان على أنَّ توجيه العناية إلى هذه العناصر وفق ما نص عليه القرآن هو الطريق إلى تحقيق النهوض الإنساني، وهو المنهج الذي سار عليه في مشروعه التعليمي.

محاور المشروع

بعد الوقوف عند بعض المفاهيم التي تتبعنا من خلالها آراء ابن باديس نأتي الآن إلى استعراض المحاور التي تجسد فلسفته التربوية.

أولا: المبادئ والاتجاهات

من أهم المبادئ التي تشكل أسس العمل التربوي عند ابن باديس ما يلي:

1- النظر إلى التعلم على أنَّه حق إنساني، يجب أن يُمَكَّن منه كل فرد، فعلى الأمَّة أن يكون هذا شعارها، وعلى العلماء أن يقوموا بواجباتهم في هذا المجال، ولذا كان نضال ابن باديس هو السعي لتوفير الظروف التي تتيح لأبنائنا وبناتنا التمتع بحق التعلم الذي حرموا منه.

يقول ابن باديس: «علينا أن ننشر العلم في أبنائنا وبناتنا، ونسائنا ورجالنا على أساس ديننا وقوميتنا إلى أقصى ما يمكن أن نصل إليه من العلم الذي هو ثمار البشرية جمعاء»(8)، وهذا ما تضمنه المشروع التعليمي الذي بدأه بمفرده، ثمَّ جند معه العلماء، واستنهض همم الشعب من أجل تشييد المدارس للقيام بهذه المهمة.

2- إعطاء الأولوية عند برمجة عمليات التعلم للبعد التربوي، بالتركيز على الأثر الفكري الذي تحدثه المعرفة، وعلى ما يُكَوِّن الفكر الصحيح ويُنَمِّي الوجدان السليم.

3- مسايرة الحياة المعاصرة مطلب ينبغي الأخذ به عند تحديد عناصر المنهاج وضبط أهداف التعلم، وما يهدف إليه ابن باديس هو تحقيق التكامل بين الأصالة والمعاصرة، أي؛ بين الاتجاه الذي يرسخ القيم الدينية والوطنية في نفوس المتعلمين، والاتجاه الذي يدفعهم إلى معايشة حقائق العصر، والأخذ بأسباب التقدم.(*)

4- الاهتمام بالعمل جزء من عملية التعلم، لابد أن يتوج الجانب المعرفي النظري المستخلص من الدرس بالجانب العملي الذي يعطي للمعرفة لونا واضحا، وفكرا نافعا، لذا ينصح ابن باديس بتوظيف الحقائق العلمية التي اكتسبها الفرد والتخلي عن الطريقة التي تركز على حَشْوِ الأذهان بالمعلومات النظرية دون الالتفات إلى المجال العملي الذي من وظائفه كسر الحواجز التي تفصل التعليم عن الحياة.

ثانيا: الأغراض والمرامي «الأهداف والغايات»

الأغراض:

1- إنَّ نقطة البداية في العمل التربوي هي: العناية ببناء الوجدان بغرس العقيدة الإسلامية، وتثبيت الإيمان، وتعزيز القيم السلوكية، وتلقين المفاهيم الدينية الصحيحة (أي البناء الداخلي للإنسان)

2- السعي إلى تحقيق الكمال الإنساني: ويتم الاهتمام بتحقيق هذا الغرض من خلال تمكين الفرد من العلم وممارسة العمل والأخلاق، هذه الأركان الثلاثة هي التي تجسد الشخصية الكاملة المتكاملة، فالإنسان الكامل هو الذي يتمتع بمستوى علمي، وقدرة على العمل، وإرادة قوية يترجمها خُلُقٌ سويٌّ، وهذه جوانب تحصل بالعمل التربوي(**)

3- تثقيف عقول الناشئة بالعلم وتحريرها من الجمود، من أهم الأغراض التي يركز عليها ابن باديس، ويجعلها أساس التغيير هي عملية التثقيف؛ تثقيف أفراد المجتمع بالعلوم والمعارف وتنمية وعيهم بما يجعلهم يحررون أنفسهم من كل أشكال الجمود والضعف، وهذا الغرض متضمن في نص القانون الأساسي لجمعية التربية والتعليم، فابن باديس كان حريصا على الدعوة إلى الاهتمام بالعلم، بتعلمه وتعليمه ونشره، وتحمل المشاق في سبيله. ونبه إلى أهمية استشعار الرغبة الذاتية في طلب العلم للعلم، لكونه الوسيلة التي تثقف عقل الإنسان، ويحقق بها كماله، هذه هي الأغراض.أمَّا الغايات والمرامي التي تشكل النتائج التي يتطلع إليها فهي:

1- تكوين جيل مشبع بالفكر الإصلاحي

من أهم الأغراض تكوين جيل متشبع بالفكر الإصلاحي، ومزود بثقافة متوازنة، لا يكون فيها الفرد مبتورا عن أصوله، ولا متروكا على هامش التقدم، جيل متمسك بمقومات شخصيته، وله إلمام بالعلوم الموروثة، ومستوعب حقائق العلوم الحديثة، ومدرك واجباته الوطنية.

2- المحافظة على الشخصية الجزائرية

تُعدُّ المحافظة على الشخصية الإسلامية في الجزائر بجميع مقوماتها أهم الغايات التي كان يناضل ابن باديس من أجلها، إذ كان هدف مشروعه الحرص على إبقاء الجزائر محافظة على عروبتها متمسكة بإسلامها، وبارتباطها الحضاري وانتمائها الثقافي، وشخصيتها القوية، التي ترفض الهوان والاندماج والتبعية.

3- تحقيق النهضة الفكرية في الجزائر

لقد ركز ابن باديس من أجل تحقيق هذه الغاية على دعوة العلماء والمفكرين إلى الاهتمام بأربعة عناصر يراها أساسا لكل نهضة وهي؛ العروبة، والإسلام، والعلم، والفضيلة، ويعني هذا أنَّ تحقيق النهضة متوقف على إحياء مجد الدين الإسلامي باعتباره منهج هداية ونظاما اجتماعيا، ومتوقف أيضا على إحياء الاتجاه الثقافي الذي تمثله مقومات الحضارة العربية، وتمثل قيم العروبة باعتبارها شعورا وجدانيا هو المدخل إلى هذه الحضارة. ثمَّ يأتي الاهتمام بالعلم باعتباره معرفة شاملة وأساسا فكريا وأداة من أهم أدوات التغيير.ويختم ابن باديس هذه العناصر بالأخلاق؛ بالفضيلة باعتبارها الخُلق السوي الموجه لحياتنا والسلوك المؤثر في علاقتنا، وفي نظرتنا إلى الحياة.ويذكر في موضع آخر أنَّ أساس النهضة هو التفكير المتجدد في أمور الدين والدنيا.

يريد ابن باديس أن يبين لنا أنَّ النهضة التي بدأت تباشيرها تلوح في الأفق بعد تأسيس جمعية العلماء، وانتشار التعليم العربي في كل جهة؛ هذه النهضة يجب أن تبنى على هذه العناصر أو على ثنائيتين لابد منهما لكل نهضة: العلم والأخلاق، والدين واللغة، فالعلم أساسه الفكر وقِوامه الأخلاق، والدين أساسه الإيمان، واللغة وعاء الدين وأداة الحضارة. ولكل عنصر من هذه العناصر أثره في تطوير الحياة.

ثالثا المضامين التعليمية «المحتوى»

بعد أن حدد ابن باديس الأغراض والغايات التي يجب أن يستهدفها العمل التعليمي؛ أشار إلى بعض المعارف العلمية والمضامين التي ينبغي أن تشكل مواد النشاط التعليمي التي تساير الأغراض وتستجيب لها.

ومن بين المواد التي يرى ضرورة إدراجها ضمن المنهاج التعليمي الذي يتلقاه الدارسون ما يلي:(9)

1- دراسة القرآن الكريم والحديث الشريف، باعتبارهما المصدرين الأساسيين اللذين تستمد منهما أحكام الشريعة وأصول التوحيد، وتعتمدان في التوجيه الأخلاقي والتربوي ( وتتضمن دراسة القرآن؛ أحكام القراءات والتجويد، والتفسير، وما يتصل بعلوم القرآن).

2- دراسة العقائد والعلوم الشرعية (توحيد- فقه- فرائض- أصول فقه).

3- دراسة اللغة العربية وفنونها (نحو – صرف – بلاغة – أدب – عَرُوض – صناعة الإنشاء، والتدريب على الخطابة).

4- دراسة المواد الاجتماعية (الأخلاق – التاريخ الإسلامي – الجغرافيا).

5- دراسة المواد التي تربي العقل وتنمي القدرة على الاستدلال (مثل المنطق، والحساب، والهندسة، والفلك، وعلم الطبيعة).

بالإضافة إلى هذه المحاور المستخلصة من الخطة، التي كان يعتمدها ابن باديس في الجامع الأخضر، التي اقترحها في مجال الإصلاح التربوي  على جامع الزيتونة، بالإضافة إلى ذلك كانت له رؤية تربوية في مجال تحديد محتوى المنهاج التعليمي قلَّ أن نجدها عند علماء ذلك الوقت. كان يرى أنَّ كل العلوم التي تخدم حياة الإنسان وقضايا العمران وتصلح أحوال البشر هي من العلوم التي يجب أن تدرج ضمن علوم الإسلام، أو من العلو م التي يجب أن تدرج في برنامج التربية من المنظور الإسلامي، ويستخلص من هذا أنَّ ابن باديس حرص على إعادة الاعتبار للتعليم الإسلامي بمفهومه الصحيح، وبالصورة الراقية التي كان عليها في تاريخ الحضارة الإسلامية يوم كانت هذه الحضارة في أوج مجدها. ومن خلال ذلك كان يريد أن يسترجع المسجد دوره في هذا التعليم الذي أنتج للأمة علماء مفكرين استنارت بهم الحضارة، والتعليم الإسلامي في نظره لا ينحصر في تلقين العلوم الدينية واللغوية، إنَّما يشمل العلوم العصرية التي فرضها التطور الحضاري، ودعت إليها حاجات الإنسان المتغيرة تلك العلوم التي انصرف عنها المسلمون في القرون المتأخرة بسبب انحطاطهم وجمود علمائهم.

رابعا: الطرائق التعليمية والأساليب التربوية

الطرائق والأساليب وسائل بيداغوجية تستخدم لتلقين المعرفة ولإكساب المتعلم مهارة التعلم، أو توظف لإحداث غاية تربوية معينة، يحددها هدف الدرس ونوع المعرفة التي تقدم للمتعلمين.

ولم يرد ابن باديس أن يحدد طرائق معينة لأنَّ الطرائق قد تتنوع وتتعدد، والمعلم الموهوب الذي يدرك مستوى تلاميذه والغاية المستهدفة من درسه هو الذي يختار الطريقة الملائمة، ويبتكر الأسلوب الفعال الذي يحرك فاعلية المتعلمين ويدفعهم إلى التعلم والمشاركة في الحوار.

وإذا كان ابن باديس لم يحدد في كتاباته عن التربية تصورا شاملا ودقيقا لمشكلات التعلم المدرسي، وأنواع الطرائق التي تصلح لتبليغ المعارف والخبرات، وتدريب المتعلمين على بعض المهارات؛ فإنَّه طرح من خلال تناوله بعض جوانب هذا الموضوع جملة من المسائل التربوية هي من صميم توجهات التربية الحديثة في مجال الطرائق، أي «التعليمات»كما تسمى في أيامنا هذه.وكان منطلقه في إثارة هذه المسائل نقده الموضوعي لأساليب التعليم التي كانت سائدة في عصره في المعاهد الإسلامية الكبرى مثل«الأزهر والزيتونة»، ومن الأساليب التي انتقدها بشدَّة، وأرجع إليها أسباب الجمود الفكري الذي يتخرج به المتعلمون:

– أساليب التلقين والتحفيظ، واجترار المتون والحواشي، والاهتمام بالجوانب الشكلية ، والمماحكات اللفظية، والجدل النحوي العقيم الذي لا يفيد الطالب في حياته الفكرية، ولا ينمي معارفه العلمية، ولا يكسبه خبرة تنفعه في مستقبل حياته.

والأمور التي انتقدها كثيرا هي:

– الاعتماد الكلي على الكتب وأقوال المؤلفين، والنظر إليها كما لو كانت مسلمات لا يجوز مناقشتها.

– عدم استخدام الفكر فيما يعرض من مسائل ومعلومات، فكأنَّ مهمة التعليم هي حشو أذهان الطلاب بكثرة المعلومات التي تزخر بها الكتب.

– ضعف العلاقة التربوية التي تربط المعلم بالمتعلم.

– ومن الأخطاء التي تسجل على الأساليب المنتهجة العدول عن النظر والاستدلال المأمور بهما كتابا وسنة.

– فهو في هذا المجال يعيب على الطلاب الذين لا يستخدمون فكرهم فيما يقرأون، كما يعيب على المدرسين الذين لا يوجهون طلابهم إلى استخدام فكرهم والاستنارة بالعقل الذي ميز اللهُ به الإنسانَ وجعله أداة عمله.

لذا نراه يوضح للطلاب أنَّ القراءة السطحية للكتب وأقوال المؤلفين، التي تخلو من التدبر وإعمال الفكر لا تؤدي إلى نتيجة فكرية أو علمية، ولا تقود القارئ إلى استخلاص أي حقيقة؛ بل تبقيه جاهلا وإن كان يحمل شهادة(*)

وينبه إلى ضرورة تعويد الطلاب الاعتماد على النفس في تحصيل المعرفة وزيادة الاطلاع، وتدريبهم على أساليب التعلم الذاتي، وتحرير أفكارهم من الخضوع الأعمى للكتاب والتقيد بما ورد فيه.

ويوصي بالاهتمام عند تناول القضايا بالأصول التي نتجت عنها الفروع، لأنَّ النظر في الفروع المقطوعة عن الأصول لايسمى علما.

الخاتمة

هذا جانب من التفكير التربوي الذي يستخلصه من يتتبع نشاط ابن باديس العلمي والتعليمي منذ عاد من رحلة التعلم إلى سنة وفاته(*). فالذي يتأمل الفكر التربوي المستخلص من آراء ابن باديس، ومن جهاده القولي والفعلي في مجال التربية يجده فكرا أصيلا ومتطورا بالنسبة إلى عصره، فكرا صادرا عن إنسانا واعٍ بمتطلبات التغيير، ملتزما في عمله بما يمليه عليه دينه وتفرضه وطنيته، مستوعب أسباب معاناة بلاده ومتطلبات الخروج من هذه المعاناة.

هذا هو الفكر التربوي الباديسي الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه التي أمكن استخلاصها  مما تركه لنا.إنَّ هذا الفكر نجده حاضرا في أذهاننا وأمام أعيننا، وفي المراجع التي تؤرخ لثقافتنا ، ولكنه غائب عن برامجنا التعليمية وعمَّا تتعلمه أجيالنا، وغير مدرج في استراتيجية التطوير التي تنتهج في مجال المنظومة التربوية، لأنَّ القائمين على التعليم عندنا لا يستهويهم البحث عن أفكار علمائنا، ولا يحاولون الاستفادة مما تركه هؤلاء العلماء، إمَّا جهلا أو تجاهلا. لذلك لم يستلهموا الأفكار التي تركها ابن باديس ويأخذوا منها ويدرجوها في برامجهم الإصلاحية. لذلك نراهم يعزفون عن الاستفادة من تراث هذا العالم الذي عاش للجزائر، وعاشت الجزائر في عقله وقلبه، وسلوكه، ويميلون إلى البحث عن الأفكار في مصادر أخرى رغم أنَّ ما تركه ابن باديس في مجال التربية فكر واقعي متطور، ونابع من إحساس وطني، ومستمد من الحقائق الإسلامية التي تعيش في وِجدان أفراد المجتمع الجزائري.

وكان يمكن أن نعتمده في صنع واقع تربوي يفيد البلاد ويؤصل النظام المدرسي، ويخرج المدرسة من حالات التخبط التي ورثتها عن العهد الاستعماري، وظلت تؤثر في مسيرتها. وكان الأمل أن تلتفت الجزائر إلى أفكار ابن باديس غداة الاستقلال لتستمد منها ما يُعِينُها على رسم معالم المدرسة الوطنية التي كانت حلم الأجيال، لكنَّها مع الأسف لم تلتفت إلى النموذج المدرسي الذي أسسه ابن باديس،  ونفذته جمعية العلماء في مدارسها، وعاش معنا حتى بداية الاستقلال.

وينبغي في خاتمة هذه الكلمة أن نذكر القارئ بأنَّ الأمر الذي كان يؤرق ابن باديس ويشغل باله وتفكيره هو الوضع المتدهور الذي كانت عليه بلاده في المجال الديني والثقافي والسياسي.

ومن أجل ذلك وجَّه كل عنايته لنشر التعليم وبث الوعي بين فئات الشعب، بهدف التحضير لبناء مجتمع متعلم، يعي أفراده حقائق الأوضاع التي تواجههم فينهضون لمقاومتها، ويهيئون الأجيال القادرة على المقاومة.

وكان أمله من هذا البرنامج تأسيس نظام للتربية تعتمده البلاد في بناء ذاتها وصنع مستقبلها، لذلك ظل يعمل في جبهات متعددة بغية تحقيق هذا النظام، أو إيجاد المحيط الذي يهيئ له ولو بعد فترة من الزمن،ونشير هنا إلى أنَّ ما يميز الاتجاه التربوي الذي كان يحرك جهود ابن باديس هو أنَّه يجمع بين الجانب النظري والجانب العملي، أي بين التربية باعتبارها فكرا، والتربية باعتبارها عملا.

لقد أبدع في مجال التصور النظري، كما أبدع في مجال التخطيط العملي للنهوض بالفعل التربوي، وتأسيس المشروع

التعليمي المتكامل، الذي جعله الوسيلة المثلى في تحقيق ما كان يصبو إليه، وهو بناء الأجيال المتعلمة التي تعي واقع مجتمعها، وتعمل على النهوض بهذا الواقع

(2) الشهاب: ج 7، م 15 ص 344

(3) آثار الإمام ابن باديس؛ ج 4 ص 136، وكذا إمام الجزائر؛ عبد القادر فضيل ص 185.

(4) إمام الجزائر ص 167.

(5) الشهاب ج 12 م 8.

(6) الفكر التربوي العربي الإسلامي (المنظمة العربية للتربية) تونس.1987، ص 398.

(7) إمام الجزائر؛ عبد القادر فضيل، صص 179/180.

(8) آثار الإمام ابن باديس: ج 2 ،ص 161

(*) يقول ابن باديس: «إذا أردت الحياة فكن ابن وقتك، تسير مع العصر الذي أنت فيه».

(**) يقول ابن باديس: «الكمال الإنساني مُتَوَقِّف على قوة العلم، وقوة الإرادة، وقوة العمل».

(9) انظر: إمام الجزائر، وكذا آثار الإمام. ج4 ص 68 وما بعدها.

(*) وجه ابن باديس وصيته فقال«فالتفكير التفكير يا طلبة العلم، فإنَّ القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم».

(*) من عام 1913 إلى سنة 1940.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى