أمـا بـعـد …! / الدكتور عبد الرزاق قسوم
فقد انفرط العقد “الفريد” الذي كان منتظما؛ فتناثرت حبّاته، وتكاثر جُناته، فتوقف العمل، وتبخر الأمل. افرنقع الذين جمعهم الطبل والمزمار، وهدهدتهم التراتيل والأذكار، فاستيقظوا على صوت الهزيمة ، وبطل ما كانوا يأملون.
كان هذا واقع الاستحقاقات التي عاشتها الجزائر، والتي كانت مجال وعود، وعهود في المزاد السياسي، ومساومة ومقاومة في السباق نحو الكراسي، فأطلق العنان فيها للرشوة والفساد، وتحولت من سباق شريف وعفيف، إلى نخاسة للعبث برؤوس العباد ومصالح البلاد.
لقد اصطدمت العملية بأقسى وأنكى التحديات حين قال الشعب كلمته في صمت، وألقى درسه بعد تدبر ونحت، فسحب البساط الأحمر من فوق ومن تحت.
لقد علق الجميع الآمال على التغيير السلمي بالاقتراع، وتجاوز دعاة العنف والدم، والصراع، ولكن ما الحيلة إذا كانت المقدمات السياسية فاسدة، ومحتوى الخطابات بضاعة كاسدة. ليت شعري متى يدرك الساسة عندنا مغزى الخطاب الجماهيري المرسل ؟ ومتى يرتقون إلى مستوى الطموح الشعبي المجمل ؟
إن ما طفا على السطح، من “ذباب بوليتيكي” على حد تعبير صديقنا محمد الهادي الحسني، لم يستطع لنسبيته، وخفة وزنه أن يطمس معالم الأقلية الجماهيرية الصامتة التي ثقل وزنها، وعظم أثرها، وانعكس على الساحة الوطنية وزرها، وأزرها. فقد كان لدعاة المقاطعة الانتخابية، منطقهم، الذي برروه بعدم وجود الرغبة في التغيير، وبسبب أنواع الخلل في التعامل السياسي مع الطبقة السياسية، وسوء التدبير والتسيير.
فهل يحسن القائمون على أمور السياسة عندنا، الإصغاء، لهذه الأغلبية الصامتة، وفيها القدرات المنسحبة، والكفاءات المنسلبة، والطاقات الشبانية المتحفزة والمتقلبة ؟
إن على المنتخبين الجدد، إن قدر لهم أن يصمدوا أمام موجات التصدي والتحدي، أن يعملوا على إعادة صياغة المشهد الوطني بجميع مكوناته، وفي مقدمة ذلك المشهد السياسي.
عليهم أن يعيدوا النظر في منهجية تنظيم العملية الانتخابية بأكملها، بدء بطريقة اختيار المرشحين، ضمن القوائم الانتخابية، وإعادة تقسيم الدوائر الإدارية، ووضع معايير التنظيمات الحزبية، وتقليص عدد الحساسيات السياسية، وشروط إسناد القيادات إلى هذه الهياكل التنظيمية.
فمن مطالب الأغلبية المقاطعة للانتخابات ضرورة إيجاد إرادة التغيير، والعمل على تشبيب أجيال التسيير، وأخلقة السلوك السياسي في العلاقة بين المواطن، وقادة التسييس والتسيير، فتختفي مشاهد القبح في المتاجرة بالمناصب، والاستثمار، والتعمير.
إن البرلمان الجديد الذي أفرزته استحقاقات العاشر من مايو، سيظل، مهما باركه “المراقبون الدوليون”، فاقدا للشرعية الشعبية، حيث لم تزكه أغلبية الشعب، كما سيولد هذا البرلمان معاقا، ما دام لم يباركه السواد الأعظم من الشعب الجزائري أيا كانت قناعاته.
ففي عصر ما أصبح يعرف بالربيع العربي، والربيع الأوروبي، فإن رياح التغيير التي تهب على شعبنا من كل جانب، لابد أن نأخذ لها الدروع الواقية، وأن نجنّد لها الجماهير الواعية، فإن لم نفعل، فسيجرفنا تيار التغيير المتوحش، الذي لا يؤمن بقواعد التغيير، ولا بحرية التعبير، ولا بحسن المقاربة والتقدير، ويومها فإن الرياح إذا هبت عواصفها، سوف لن تصيب العالي من الشجر والبشر فقط، ولكنها ستقتلع الجذور، وتنسف الجسور، وتقضي على أعشاش الصقور والطيور، وينطبق على الجميع قول أحمد مطر:
نحن لمن ؟
ونحن من ؟
زماننا يلهث خارج الزمن
لا فرق بين جثة عارية
وجثة مكتسية
سواسية.