المرحلة الثالثة
وأخذت أيام مجاورتي بالمدينة علم التفسير عن الشيخ الجليل إبراهيم الأسكوبي, وكان ممن يشار إليهم في هذا العلم مع تورّع وتصاون هو فيهما نسيج وحده.
وأخذت الجرح والتعديل وأسماء الرجال عن الشيخ أحمد البرزنجي الشهرزوري في داره أيام انقطاعه عن التدريس في الحرم النبوي, وكان من أعلام المحدثين, ومن بقاياهم الصالحة.
وأخذت أنساب العرب وأدبهم الجاهلي, والسيرة النبوية عن الشيخ محمد عبد اللّه زيدان الشنقيطي, وهو أعجوبة الزمان في حفظ اللغة العربية وأنساب العرب, وحوادث السيرة.
وأتممت معلوماتي في علم المنطق عن الشيخ عبد الباقي الأفغاني بمنزله, وكان رجلاً مسنًّا منقطعًا عن أسباب الدنيا, قرأت عليه الحكمة المشرقية, وكان قيّمًا عليها, بصيرًا بدقائقها.
وذاكرت صاحبنا الشيخ أحمد خيرات الشنقيطي سنين عديدة في اللغة والشعر الجاهلي, ومنه المعلّقات العشر, وصاحبنا محمد العمري الجزائري, أمهات الأدب المشهورة خصوصًا الكامل للمبرد, والبيان والتبيين للجاحظ, فقد ختمناهما مطالعة مشتركة فاحصة متأنية, وكذلك فعلنا بكتاب الأغاني من أوله إلى آخره.
وبالجملة فقد كانت إقامتي بالمدينة المنوّرة أيام خير وبركة عليّ, فكنت أنفق أوقاتي الزائدة في إلقاء دروس في العلوم التي لا أحتاج فيها إلى مزيد كالنحو والصرف والعقائد والأدب, وكنت أتردّد على المكتبات الجامعة, فلا يراني الرائي إلا في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت, حتى استوعبت معظم كتبها النادرة قراءة, وفي مكتبة السلطان محمود, وفي مكتبة شيخنا الوزير, وفي مكتبة بشير آغا, أو في مكتبات الأفراد الغاصة بالمخطوطات, مثل مكتبة آل الصافي, ومكتبة رباط سيدنا عثمان, وفي مكتبة آل المدني وآل هاشم, ومكتبة الشيخ عبد الجليل برادة, ومكتبة الوزير التونسي العربي زروق, كما كنت أستعير كثيرًا من المخطوطات الغربية من أصدقائي وتلامذتي الشناقطة, أذكر منها ديوان غيلان ذي الرمة, فأقرأها وأحفظ عيونها, وقد حفظت في تلك الفترة معظم ديوان ذي الرمة.
كل هذا وأنا لم أنقطع عن إلقاء الدروس, وجاءت الحرب العالمية الأولى فلم أنقطع عن هذا النظام المحكم في حياتي العلمية, ولما جاءت سنة 1917 أمرت الحكومة العثمانية بترحيل سكان المدينة كلهم إلى دمشق بسبب استفحال ثورة الشريف حسين بن علي, وعجز الحكومة عن تموين الجيش الذي بلغ عدده خمسين ألفًا, وتموين المدنيين الذين يبلغ تعدادهم ثمانين ألفًا, فاقتضى تدبير قوّادها العسكريين إذ ذاك أن ينقل سكان المدينة إلى مصدر الأقوات في دمشق, بدل أن تنقل الأقوات منها إليهم, فكنت من أوائل المطيعين لذلك الأمر, وخرجت مع والدي إلى دمشق في شتاء سنة 1917, وكان من أول ما يعنيني لقاء رجال العلم وكانوا أول من بدأ بالفضل فزاروني في منزلي وتعارفنا لأول لقاء, وهدتني المجالس الأولى إلى تمييز مراتبهم فاصطفيت منهم جماعة من أولهم الصديق الحميم الشيخ محمّد بهجت البيطار.
المرحلة الرابعة
ما لبثت شهرًا حتى انهالت عليَّ الرغبات في التعليم بالمدارس الأهلية, فاستجبت لبعضها, ثم حملني إخواني على إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد بالجامع الأموي بمناسبة حلول شهر رمضان فامتثلت وألقيت دروسًا (تحت قبة النصر الشهيرة) على طريقة الأمالي, فكنت أجعل عماد الدرس حديثًا أمليه من حفظي بالإسناد إلى أصوله القديمة, ثم أملي تفسيره بما يوافق روح العصر وأحداثه, فسمع الناس شيئًا لم يألفوه ولم يسمعوه إلا في دروس الشيخ بدر الدين الحَسَنِي, ثم بعد خروج الأتراك من دمشق وقيام حكومة الاستقلال العربي دعتني الحكومة الجديدة إلى تدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (وهي المدرسة الثانوية الوحيدة إذ ذاك) مشاركًا للأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك, فاضطلعت بما حُملت من ذلك, وتلقّى عني التلامذة دروسًا في الأدب العربي الصميم, وكانت الصفوف التي أدرس لها الأدب العربي هي الصفوف النهائية المرشّحة للبكالوريا, وقد تخرّج عني جماعة من الطلبة هم اليوم عماد الأدب العربي في سوريا منهم : الدكتور جميل صليبا, والدكتور أديب الروماني, والدكتور المحايري, والدكتور عدنان الأتاسي.
ولما دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق اتصل بي وأرادني على أن أبادر بالرجوع إلى المدينة لأتولّى إدارة المعارف بها, ولم يكن ذلك في نيتي وقصدي, لما طرأ على المدينة من تغيّر في الأوضاع المادية والنفسية فأبيت عليه, وما فتئ يلحّ عليّ وآبى إلى أن سنحت الفرصة فكررت راجعًا إلى الجزائر موطن آبائي وعشيرتي.
المصدر : آثار الإمام الإبراهيمي .