العولمة والإسلام:1-عقيدة العولمة/ د. جيلالي بوبكر
ثبت للجميع من خلال التناقض بين خطاب العولمة وسلوكها على الأرض أنها تفتقر تماما إلى الشرعية الأخلاقية التي امتلكتها الحضارات السابقة بدرجات متفاوتة، في سياق العالمية المؤنسة لا في إطار النظام العالمي الشرس والمتوحش، لذا يتساءل العديد من المفكرين “عن قدرة هذا النظام على الاستمرار، وعلى إعادة توليد نفسه، خاصة وأنّ الفساد أصبح سمة لازمة وقطعية للمجتمعات، وأنّ العولمة لم تؤسس قيما أخلاقية جديدة بل استفادة من القيم القائمة والتي ورثتها تاريخيا عن المراحل السابقة، كالشرف وخدمة الوطن ونقل المعرفة وغيرها، بل إنّ العولمة أدت إلى تآكل هذه القيم وتراجعها بعدما أصبحت القيمة الأساسية هي المال فقط، مما يؤدي إلى مأزق ستواجهه العولمة، إن لم يكن اليوم ففي المستقبل القريب، لأن المال أو المادية وحدها لا يمكن البناء عليها نظرا لتغريها وعدم استقرارها، كما أنها ليست متكافئة كالقيم الأخلاقية”. وإذا كانت العولمة تركز على القيم المادية التي لا تعتبر القيم الدينية الإيمانية ولا الفضائل الأخلاقية فإنها بذلك تصنع وجودا ليس متوازنا في الإنسان الفرد والمجتمع، اللاتكافؤ في الوجود الإنساني يحدث الاختلال في الحياة الإنسانية عامة، وتسيطر النزعة المادية التي “تغذي ثقافة الأنا وتقديس الفردية، ولا مانع في ظل ليبراليتهم، أن يسخر المجتمع أو بعضه لمصالح الإنسان الفرد صاحب النفوذ، أو الرجل السوبرمان… تنشر العولمة قيما ومفاهيم عنصرية ولّدت الدعم المفتوح للعنصرية الصهيونية، لا احترام لكرامة الإنسان، ولذلك نجدهم يعتمدون أكثر من مكيال في وقت واحد”.
1- عقيدة العولمة
لقد صارت العولمة عقيدة العالم المتقدم المعاصر، وأصبحت “نظم الاقتصاد والمال هي الدين الذي يدين به الغرب، ومن تبعه من الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، وبمعنى آخر، الشمال الغني، ومن يلحق به من الجنوب الفقير، ونحن نرى الآن مصداقية تلك النبؤة في حياتنا المعاصرة، وفي مطلع الألفية الميلادية الثالثة. لقد غدت العولمة بطوفانها الجارف دين النخبة ومن اتبع تلك النخبة، حتى ليطلق أحد الباحثين عليها الوصف الآتي: “دين الأغلبية الداخل إلى البعيد بقوة، وسلطان المال والتجارة”. ونحن نجد أحد الباحثين يصف العولمة فيقول: “لقد وحّدت العولمة مفهوم الأديان التي لكل منها في حد ذاته خصوصيته وتميزه، وجعلت الناس تعتنق دينا واحدا، وهو دين المال، فنسي الناس يسوع المسيح، ونسوا الله تعالى وتذكروا أوجه الدولار”. والعولمة بهذه الصفة، جعلت من العقيدة الدينية “التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة القيم الأخلاقية والخلقية والاعتقادية”، عقيدة أرضية مادية، فأفقدتها الجانب الروحي من دعوتها الأخروية، ومسخت جوهر الإيمان التي تدعو إلى التآخي والتآلف بين الناس”. وتؤسس العولمة الدين الجديد، دين المال والأعمال والبورنوغرافيا على جذور اعتقادية صهيونية وماسونية عالمية، تدعو إلى وحدة المعتقد الديني، وإلى تطهير الأرض من الإسلام والنصرانية ومن كل الديانات الأخرى، لتبقى المعتقدات الصهيونية وحدها أرضية العولمة ومرجعية النظام العالمي وعقيدة الدنيا والأخرى، ويفي الرب بوعده، ويتحقق الحلم الصهيوني الأكبر، قيادة الدنيا وبلوغ الخلاص المطلق.
تقوم عقيدة العولمة ودعوتها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية إلى إلغاء كل الأديان والثقافات الأخرى، وتمثل هذه العقيدة دين النخبة ومن تبعها في كل مكان في العالم، وبهذا فهي عقيدة ودين العامة من الناس، لا إله في عقيدة العولمة إلا المال والطريق إليه وكل ما من شأنه يسمح ويسهل جمعه، ليس العمل والإنتاج فقط بل المال ذاته، فالمال يجلب المال في ظل الرأسمالية، ولا تهم طبيعة وسائل تحصيل المال، لأن الغاية تسمح بالوسيلة في ظل نظام لا يحترم مكارم الأخلاق، وفي عقيدة لا تعير الاهتمام للتعاون والتضامن والتكافل والعدالة والمساواة والأخوة وغيرها من الفضائل، وهي ترفعها شعارات لا غير. تتصف عقيدة العولمة بأن السلطة والحكم لديها في يد أصحاب المال والأعمال، ووظيفة العمل جلب المال ولا تتجاوزها، فهي خالية من أي بعد ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، ويقتصر العمل على التحرك في أي قطاع من قطاعات المجتمع مثل الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها للحصول على رأس المال المنتج للمال من غير تدين أو تعبد، تخلو عقيدة العولمة من الانتماء للفضائل وللهوية وللأرض وللوطن وللأمة وللقومية، لا رموز ولا شعارات محددة فيها، كما تتحدد الحقوق والواجبات والرتب والمناصب في المجتمع لدى الأفراد حسب مقدار المال الذي يمتلكه الفرد، فالمال هو الذي يصنع السلطة السياسية والاجتماعية وحتى السلطة العسكرية، ليس المهم في عقيدة العولمة الإنتاج بل الأهم هو الاستهلاك، لأن المهم إنتاج المال من المال وليس المهم إنتاج المال من الإنتاج الذي يشترط العمل، دين العولمة المبجل السلوكية الخلاعية “البورنوغرافيا”، وكتابها المقدس، “كل أدب وأثر جنسي فاحش إباحي سقيم. دين العولمة هو الوجه الآخر للأمنيات اليهودية، الإسرائيلية، الصهيونية، وإذا ما شئنا زيادة بيان، فإن أتباع هذا الدين يمكن رؤيتهم في وجوه مثل “جورج سوروس”، أو “بيل كيتس”، وسواهم من عمالقة المال والاتصالات، وهو دين لا يعرف الرحمة، ولا يريد لأتباعه ومعتنقيه أن يعرفوها أبدا”. تتبنى عقيدة العولمة عددا من المبادئ والقيم التي قامت عليها الحداثة الغربية والحضارة الحديثة، تتضمنها مواثيق ودساتير المنظمات العالمية وأنظمة الدول المعاصرة المتقدمة والمتخلفة على السواء وينادي بها النظام العالمي، لكنها تبقى مجرد شعارات وأسود على أبيض، لم تتحقق في الواقع بل الممارسات في الواقع مناهضة لها تماما وتنتهكها يوميا، هو ما يعكس الأزمة الأخلاقية التي تتخبط فيها العولمة ودينها، بحيث يتناقض لديها الخطاب مع السلوك والممارسة، ويلخص صاحب كتاب “العولمة والقيم” طبيعة دين العولمة ومعتقدها في قوله: “… إنّه اقتصاد بعيد كل البعد عن الله جلاّ جلاله من وجهة نظرنا عربا ومسلمين، ومن وجهة نظر إنسانية، ولا ننس هاهنا أن دين الله عالمي النزعة، فقواعد دين العولمة هي: القوي يسحق الضعيف، الفجور يلغي الأخلاق، الإلحاد يزيل الإيمان، الربا يحرر التجارة، الاستهلاك يحذف الادخار، الإنتاج مقدم على الإبداع، المادة أغلى من الروح، الأديان كلها انتهى زمانها، القوميات كلها ولّت إلى غير رجعة، الحدود الوطنية يجب أن تُزال. وهذه القواعد لا تستقيم بكل المعايير مع أي دين من الأديان السماوية أو الأرضية، لأنها لا تضمن للإنسان الراحة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تجعله مطمئنا بأدنى قدر من الاطمئنان، لا بل إن هذا الدين المعولم الذي أخذ بين كل الناس ينقسم إلى دينين في حد ذاته: دين النخبة التي تملك وتحكم بقوتها وسلطتها. دين العامة التي تعمل تحت يد تلك النخبة المالكة الحاكمة”.
إن القيم التي تؤمن بها العولمة في السياسة والاقتصاد والدين والحياة عامة والسائدة لدى الشعوب في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا الغربية وفي كندا، المؤمن بها يتمتع بالقابلية للتحضر والقدرة على مسايرة التقدم الذي يعرفه العالم المعاصر، أما الكافر بها فعقليته بعيدة عن التحضر وهو عاجز تماما عن مسايرة الركب الحضاري المعاصر، من دون النظر إلى التنوع الثقافي والديني، ومثال ذلك شعوب العالم العربي والإسلامي التي تعاني الغزو الفكري والثقافي والمسخ والانحلال الخلقي والاضطهاد الديني في بلدانها وفي خارج بلدانها، حيث اقترن اسم الإسلام واسم المسلم بالطرف الديني والتعصب المذهبي وبالجريمة وبالإرهاب وبالجهل وبالتخلف وبالرجعية في التفكير وبسائر ما ينكره الغرب ولا يتماشى مع قيمه ومعتقداته التي تنطوي عليها عقيدة العولمة ودينها، وتمّ ذكرها وتحديدها من قبل، الأمر الذي جعل ردّة الفعل المعارضة لنظرة الآخر إلى الإسلام والمسلمين قويّة وعنيفة من بعض الجهات في العالم الإسلامي الرسمية وغير الرسمية، وزادت في تفاقم الأوضاع وسوء العلاقة بين الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي والإسلامي، وغذّت هذا الوضع السيئ ممارسات الدول الغربية ودولة إسرائيل السياسية والعسكرية في حق الشعوب الإسلامية، في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي غيرها، تنامى الحقد وتعاظمت مشاعر كراهية المسلمين لدول الغرب وأمريكا وإسرائيل أُضيفت إلى الحقد التاريخي الدفين بسبب الاستعمار الحديث وما فعله من إجرام وحشي في الشعوب الإسلامية، هذه الحالة قابلتها وتقابلها القوى الغربية بالمثل مسخرة كل ما تملك من قوة مالية واقتصادية وتقنية عسكرية وحربية لقهر المسلمين والتشكيك في ثقافتهم وعقائدهم وربطها بالإرهاب الذي ينبغي استئصاله من الجذور بقطع دابر الإسلام والثقافة الإسلامية وفتح الباب لعقيدة العولمة ودينها، من الأساليب المتبعة من طرف دعاة العولمة إثارة البلبلات والقلائل بين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون معا العالم العربي والإسلامي في بلدان أخرى، على أنّ المسحيين يعيشون الاضطهاد الديني، وجاءت هذه الصيحات في تقارير من جهات رسمية عليا سياسية ودينية ولتكن مؤسسة الفاتيكان أعلى هيئة دينية نصرانية في العالم، “إنه من المستغرب أن يدافع الغرب عن الدين خارج أرضه، بينما يمارس هذا الدين داخل تلك أرض ولا يحافظ عليه، بل عزله في الكنائس والصوامع لمن غب أو أحب، أما الحياة العامة فلا شأن للدين بها، ولذا فالدين بالنسبة لكثير من الغربيين ليس إلا مسألة ثانوية لا يلجأ إليها إلا العجزة وكبار السن والمتقاعدون، أما غيرهم فلا شأن لهم بالدين”. إنّ المنظمات الدينية النصرانية والحركة الصهيونية وحتى الأنظمة والهيئات السياسية في الغرب تدعو وتُحرض على اضطهاد المسلمين لا لسبب سوى لكونهم يدينون بالإسلام ولم يرضوا بغيره بديلا، وهذا “لا يعني بالضرورة أن كل المنظمات المسحية هي مطية للاستعمار أو لقوى الهيمنة، لكنه يعني أن مبدأ الاستغلال لها هو السائد خاصة إذا تلازم ذلك مع ظواهر الهيمنة التي نجد ملامحها واضحة في الوقت المعاصر، كما لا يعني ذلك رفضنا لحرية الإنسان في اختيار معتقده، بل نحترم تلك الإرادة والرغبة سواء أكنا نعتقد بما يؤمن به أو لا نعتقد، فاحترام حقوق الإنسان يتجاوز الفوارق كافة، لكن ما يمكن التحذير منه هو استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية، خاصة إذا لم تكن هذه الأغراض ذات أهداف نبيلة أو تختبئ تحت ردائها أهداف تتنافى مع الأهداف السامية للدين”.
ترفع العولمة في وجه الديانات والثقافات السائدة في العالم خاصة الديانات السماوية والثقافات التراثية التي مازالت حيّة في وعي وشعور أصحابها وفي ممارساتهم شعارات عدّة ظاهرها حق وصدق ونبل وباطنها مكر وشرّ وخداع، وهذا هو عمق أزمة العولمة الأخلاقية، بحيث لا يتناسب خطابها مع السلوك والممارسة، شعارات عن الحرية وعن الديمقراطية والتعددية السياسية، وعن حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وعن نقل وتعميم التكنولوجيا وقيم الحداثة والتحديث من غير تفرقة أو تمييز، وعن حماية البيئة والحد من التسلح ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وحفظ كرامة الإنسان وعرضه باحترام جميع حقوقه وعدم تعرضها للانتهاك. لكن الواقع وما يجري فيه من ممارسات يتناقض تماما ما تدعو وتحض عليه هذه الشعارات برمتها، ومن ذلك ما يتعرّض له المسلمون في دينهم وفي حياتهم من سوء وظلم وقهر في البلاد المحتلة وفي غيرها، وما نتج عن ذلك سخط متبادل بين العرب والغرب جذوره تاريخية قديمة ومعاصرة أنبتت العداء المتبادل والمتنامي باستمرار، وهذا أحد المفكرين والمؤرخين الغربيين يصور لنا مشهد العداء الغربي للعرب والمسلمين حتى ولو سجل هذا المشهد على الإسلام إيجابيته وقوته وعظمته، إنه “برنارد لويس” الذي يقول: “الإسلام واحد من أعظم ديانات العالم، ودعوني أكون واضحا حول ما أقصده باعتباري مؤرخا غير مسلم للدين الإسلام، لقد منح الإسلام الراحة والطمأنينة لملايين لا تحصى من الرجال والنساء، فقد أعطى كرامة ومعنى للحياة التي كانت رتيبة، تعيسة وبائسة، كما أنه علم شعوبا من عروق مختلفة أن يعيشوا حياة أخوية، وجعل شعوبا مختلفة المشارب تتعايش جنبا إلى جنب في تسامح معقول، كما أنه ألهم حضارة عظيمة عاش فيها المسلمون وغيرهم معا حياة خلاقة ومفيدة، وهذه الحضارة أغنت العالم بأسره بما حققته من إنجازات”. لكن المؤرخ والمفكر الغربي “برنارد لويس” مافتئ حتى انقلب على رأيه في تحديد نظرته إلى الإسلام، وكأنه لا يريد ترسيخ موقف إيجابي من المسلمين، سيرا على نهج أعداء الإسلام والمسلمين في الغرب الأوربي، فهو “يقرر أنّ الإسلام، وعلى شاكلة غيره من الأديان، عرف فترات نفخ فيها روح الكراهية والعنف في أتباعه، ومن سوء حظنا فإنّ جزء من العالم الإسلامي لا يزال يرزح تحت وطأة هذا الميراث، ومن سوء حظنا أن غالبية – وليس كل- هذه الكراهية والعنف موجّه ضدنا في الغرب. هذه الكراهية تتجاوز أحيانا العداء الموجه ضد مصالح وأفعال وسياسات وحتى بلدان معينة وتصبح رفضا للحضارة الغربية برمتها، ليس فقط بما تجترحه هذه الحضارة بل بما هي، بقيمها ومبادئها التي تمارسها وتحترفها، فهذه المبادئ والقيم تبدو لهم حقا شرا متأصلا”. هذا هو الإسلام وهم أصحابه من منظور الفكر الغربي، المنظور الذي أشعل فتيل العداء بين الإسلام والغرب، وأعطى الحق كل الحق للغرب المتحضر والديمقراطي للاعتداء على المسلمين في مختلف أنحاء العالم، لكونهم في مركز ضعف شديد ولكون الغرب في مركز قوة يقود العالم ويسيطر عليه.
يتبع