مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

هل يحتاج العالم العربيّ للأبحاث الأساسية ؟ /د٠ نضال قسوم

لا يمكن للعالم العربيّ تجاهل البحوث الأساسية لصالح الأبحاث التطبيقية، إذا أرادت الدول العربية إنتاج ثقافة العلم ومجتمع المعرفة في أوطانها.
عندما فاز البريطاني ج. ج. تومسون بجاذزة نوبل للفيزياء عام 1906 لاكتشافه الإلكترون، اقترح نخباً في حفل عشاء قائلاً : “للإلكترون، الذي لا فائدة فيه لأحد !” وكان هكذا يدافع بفخر عن “الحقيقة الواضحة” في ذلك الحين من أن الإلكترون هو اكتشاف بلا تطبيق، فهو من “الأبحاث الأساسية” فقط. وبعد قرن، لم يصبح الإلكترون ذا استخدامات واسعة النطاق في حياتنا (من الإلكترونيات إلى الطب) فحسب، بل امتلك “قيمة سوقية” تتجاوز ثلاثة تريليونات دولار أمريكي. وبنفس الروح فإن رئيسة الوزراء البريطانية (سابقاً) مارغريت تاتشر أشارت إلى أن مايكل فارادي (الفيزيائي البريطاني الذي قادت أبحاثه خلال القرن التاسع عشر جيمس ماكسويل لاكتشاف الأمواج الكهرمغناطيسية) يثمّن (بأبحاثه تلك) بأكثر من قيمة بورصة لندن حسب أسواق زمننا الحالي.
ولكن قبل أن نناقش الأهمية النسبية للبحوث الأساسية، ولا سيما في السياق العربي، فإننا بحاجة إلى الاتفاق على ما نعنيه بهذه العبارة. يشير الفرنسيون الى هذا النوع من الأبحاث بـ “Recherche fondamentale”، أي بأنها أبحاث تأسيسية، سواء كان ذلك في فهم قوانين ونسيج  الطبيعة أو في مكوّناتها الأساسية (جسيمات ومجالات)، أو التفاعلات والظواهر التي نحتاج لفهمها ووصفها علميا. وقد وصف بعض العلماء البحوث الأساسية بأنها تلك التي يكون ناتجها غير معروف سلفا.  فهذا فيرنر فون براون، عالم الصواريخ الألماني-الأمريكي، عرّف بلباقة البحوث الأساسية بأنها “ما أقوم به عندما لا أعرف ما أقوم به.”
في المقابل، فإن البحث التطبيقيّ، والأكثر من ذلك البحث التنمويّ، هو ذلك النوع الذي يتم تحديد هدفه سلفاً، مثلاً إنتاج خلايا شمسية ذات كفاءة أكبر، على سبيل المثال.
مع هذا التعريف، وملاحظة أنه في بعض الأحيان قد تتداخل هذه المجالات، فإن هناك تساؤلاً مشروعاً يطرح نفسه : ألا يجب على العالم العربيّ، ومع احتياجه للتطوير في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية – الاقتصادية، أن يركّز على الأبحاث التطبيقية؟ وكيف يمكن لأيّ كان أن يجادل مدافعاً عن طلب المزيد من الدعم للأبحاث الأساسية؟ وهل من المعقول بالنسبة للحكومات العربية الإنفاق على مجالات “عديمة النفع” مثل الفلك، والفيزياء الجسيمية، وعلم الآثار وأشباهها ؟ هل تعتبر الأبحاث الأساسية ترفاً لا ينبغي لغير الدول الغنية والمتقدمة أن تخوض فيه؟
البحوث الأساسية
قبل أن أتطرق إلى حالة البحوث والوضع التمويليّ في العالم العربي، دعونا نراجع الحجج الرئيسية للبحوث الأساسية، حيث فوائد الأبحاث التطبيقية مقبولة على نطاق واسع. يقال عادة إن الهدف من البحث العلمي ينبغي أن يكون تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في البلدان الأقلّ تقدما. وينبغي أن تدعم الموارد والسياسات هذا الهدف. والحجة الشائعة للدفاع عن الأبحاث الأساسية هي أنها تؤدي في نهاية المطاف إلى تطبيقات ما، فقليلة تلك الاختراعات التي لم تسبقها اكتشافات في العلوم الأساسية.
في دراسة مشهورة في علوم الطب الحيوي، طلب من 100 من المتخصصين  التصويت على أفضل 10 أوجه للتقدم في مجال طب القلب والأوعية الدموية بين عامي 1945 و1975. وبعد أن تمّ تحديد هذه الأوجه، استعرض الباحثون 4000 مقالة في الأبحاث العلمية المفتاحية التي قادت إلى مجالات التقدم التطبيقيّ هذه، فوجد أن 62 بالمئة منها أبحاث تعتبر “أساسية”.

ويمكن إعطاء أمثلة محددة كثيرة على الروابط المباشرة وغير المباشرة بين البحوث الأساسية والابتكارات العملية اللاحقة، مثلا: العلاج الإشعاعي، التصوير باستخدام إشعاعات البوزترون، التصوير بالرنين المغناطيسي، الهندسة الوراثية، وحتى “الرياضيات البحتة” والنسبية العامة  لآينشتين. وشبكة الإنترنت كانت قد وضعت وطوّرت على يد الفيزيائي تيم بيرنرز لي  في سيرن CERN (المجلس الأوروبي للأبحاث النووية في جنيف). بل إنه من بين حوالى 10000 مسارع للجسيمات في العالم اليوم، هناك فقط 100 ما تزال تستخدم للأبحاث النووية، والباقي يستخدم للعلوم التطبيقية، مثل إنتاج الأشعة والنظائر النووية لأغراض العلاج الطبي.
لكن هذه الحجة لها حدودها، وذلك لسببين.

أولا، بالنظر إلى الموارد البشرية والمالية التي يتمّ (أو تمّ) صرفها  في مثل هذه البحوث الأساسية، مثل مسارعات الجسيمات الكبيرة أو تكنولوجيات الفضاء، فإنه من الطبيعي ومن المتوقع أن تسفر عن بعض الفوائد الجانبية والإضافية. وفي بحث سابق، كنت قد وجدت أكثر من 100 من المنتجات التي (بشكل غير مباشر) جاءت من برنامج استكشاف الفضاء، منها: المسح بالأشعة السينية والأشعة المقطعية، مقياس الحرارة بالأشعة تحت الحمراء، ليزر الأوعية الدموية، عناصر آلية متنوّعة، نظام الاستشعار الآليّ ، الواقع الافتراضي، والعديد من التطبيقات الأخرى.
ثانيا، أعتقد أن العلم، على عكس ما يتمّ تصوّره عادة، ليس مكرّساً بشكل أساسيّ لتحسين نمط الحياة، بل إنه في الحقيقة يهدف الى تقدم البشرية بشكل أوسع – فكريا قبل كل شيء. وقد أنعم الله علينا نحن البشر بالعقل والذكاء، والقدرة المتزايدة للسيطرة على بيئتنا، وإضافةً لهذا تأتي مسؤوليتنا تجاه “خلافتنا في الأرض” ومفهوم “الأمانة” التي نحملها.
يتيح العلم لنا، مع جوانب مهمة للإنسان (الدين، والفن، الخ)، فهم وتقدير العالم الذي خُلقنا فيه وكلّفنا به.
وقد أثبت التاريخ البشري أن العلم، أكثر من أي مجال آخر، يؤدي إلى فهم متجدد، وأحياناً إلى تحوّل في فهمنا للطبيعة وموقعنا ودورنا في الكون. وهذا هو السبب الذي يجعل كل شخص ينبهر بكل اكتشاف فلكيّ جديد، ويبدي اهتماما آنيا فقط بأحدث الاختراعات. وعلاوة على ذلك، فقد أظهرت العقود القليلة الماضية أن الدول التي لا تمتلك  برنامجاً علمياً قوياً في التعليم والاكتشاف قد تتمكّن من متابعة برنامجا في “البحث والتطوير” (R&D)، ولكن تقدمهما العلميّ والفكريّ سيظل متواضعا.
أما نحن في العالم العربي، فنجد نقاط ضعف على جميع هذه الجبهات. التقدم الفكري بطيء في أحسن الأحوال، حسب ما يمكن قياسه، على سبيل المثال، من خلال عدد الكتب التي تنشر كل عام، أو حسب النسبة المئوية للعلماء بين السكان، أو حسب نسبة ما ينفق ًعلى البحث العلميّ من الناتج المحلي الإجمالي.
في نوفمبر 2010، نشرت منظمة اليونسكو تقريرها العلميّ للعالم، حيث تتوفّر ثروة من البيانات والتعليقات حول كثير من البلدان والمناطق، وقد وجد أن 20 دولة عربية أنتجت 6000 كتاب سنوياً مقارنة مع 100000 في أمريكا الشمالية. يبلغ عدد الباحثين في العالم العربيّ 371 باحثاً  لكل مليون نسمة، مقارنة مع المتوسط العالمي البالغ 1081، ولدى الأردن وتونس فقط نسبةً أعلى من المعدّل العالميّ. كما أنّ الإنتاج العلميّ منخفض ويبلغ معدّله 41 ورقة بحثية سنوياً لكلّ مليون نسمة، مقارنةً مع المعدّل العالميّ البالغ 147. وأخيرا، فإن الإنفاق على البحث، سواء كان في مجال العلوم البحتة أو التطبيقية، لا يزال هزيلاً حقا.
الإنفاق الهزيل على العلم

لا توجد بيانات واضحة وموثوقة حول البحوث الأساسية في العالم العربي. في الحقيقة فإن الـ27 صفحة التي تضمنها تقرير اليونسكو حول الوضع العربيّ لم تشر الى الأبحاث الأساسيّة على الإطلاق. ومع ذلك، يمكن استخدام بعض المؤشرات النوعية الأخرى لتقديم صورة أعتقد أنها صحيحة وموضوعية حول وضع الأبحاث الأساسية في المنطقة. دعوني أركّز أولاً على الإنفاق على البحث في العالم العربي.
باستخدام البيانات التي قدمها البنك الدولي على مدى السنوات العشر الماضية، قمت بحساب متوسط الإنفاق على الأبحاث في السنوات الثلاث الأخيرة لمختلف البلدان العربية (الجدول أدناه). وبالمقارنة مع المتوسط العالمي البالغ 1.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007، كانت القيم التالية للدول العربية:
• الجزائر: 0.14٪
• تونس: 0.63٪
• المغرب: 0.62٪
• مصر: 0.25٪
• الأردن: 0.34٪
• الكويت: 0.09٪
• المملكة العربية السعودية: 0.05٪

في المقابل، فإن إسرائيل أنفقت ما معدّله 4.60٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير.

ويمكن معرفة الإنفاق على البحوث الأساسية من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تجمع عددا من الدول المتقدمة)، من خلال وثيقة المؤشرات الأساسية للعلم والتقنية التي تصدرها بشكل منتظم، وعدد قليل من الدول (الصين، كوريا، الولايات المتحدة الأمريكية) في بعض التقارير الأخرى. ينقسم “البحث والتطوير” عادةً إلى البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية، والتنمية. وهذه الأخيرة عادة ما تمثّل نصف الميزانيات المرصودة، بينما تحصل البحوث الأساسية على نسبة تتراوح بين 5 % من التمويل (كما في الصين) و 32% (كما في بولندا وهنغاريا)، في حين أن معظم الدول تخصّص ما نسبته 20-25% من تمويلها.

وعندما سئل رئيس الوزراء الصيني في أكتوبر 2008 عن التدني الغريب (5٪) في نسبة الإنفاق على البحوث الأساسية في ميزانية بلاده، اعترف بأنها منخفضة بشكل غير مقبول، وتعهد بزيادتها تدريجيا على مدى السنوات الخمس المقبلة. ولذلك لا نعجب لعدم وجود أي صيني على قوائم جوائز نوبل في العلوم، مقارنةً مع أكثر من 150 من الأميركيين، إذ نجد أن جميع المؤسسات الاتحادية في الولايات المتحدة المعنية بتمويل البحوث الأساسية والتطبيقية كانت قد زادت تمويلها بنسبة 19٪ بين عامي 2003 و2008.
التوازن المطلوب

أما بالنسبة للعالم العربيّ فلا تتوفّر مثل تلك البيانات. ومع ذلك، فإن كلّ المنشورات العربية  في مجال البحوث والتمويل توكّد أن تكاد تكون محصورة بالكامل على “التطبيق”، “الابتكار”، و”التقانة”. فكما يشير الفصل الخاص بالدول العربية في تقرير لليونسكو المشار إليه آنفا: “تنطق الدول العربية  بلسان حال واحد تقريبا عندما يتعلق الأمر بأولوياتها الاستراتيجية في العلوم والتقانة: المياه والطاقة”، ويضيف التقرير الإشارة الى بعض المجالات الأخرى، مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، ولا تكاد تخرج هذه هي أيضا من دائرة “التطبيقي”.
وهناك مؤشرات أخرى تؤكد هذا التركيز على البحوث التطبيقية و على “التنمية المستدامة” في العالم العربي. فقد تم تشكيل منظمات جديدة مؤخرا لغرض تمويل الجهود التنموية، فأبدت المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا ومؤسسة الإمارات مثلا تركيزاً قوياّ على الأبحاث التطبيقية. والشيء نفسه ينطبق على جوائز مثل جائزة البنك الإسلامي للتنمية المخصصة للعلوم والتكنولوجيا. إن النظر في معايير التمويل والأنشطة الأخيرة لهذه المؤسسات لا يخفي اهتمامهم الضئيل بالبحوث الأساسية.
وأود التأكيد هنا أنني لا أدعو لإعطاء البحوث الأساسية الأولوية في التمويل أو الدعم في العالم العربي. إن الأبحاث التطبيقية مهمة جدا بالتأكيد، لكن شيئا من التوازن مطلوب من أجل رسم مسار تنموي شامل للمجتمع.
إن تشجيع العلوم الأساسية أمر لا بد منه إذا أردنا أن ننتج مجتمعات ذات تعليم جيد ومستنيرة، وتطوّر اقتصادي اجتماعي نابع منها. إن التحكم الكامل في البحوث الأساسية وتوجيهها شيء صعب جدا، فغالبا ما تكون النتائج غير متوقعة، بل وحتى النتائج التي تبدو في البداية خالية من الفائدة يمكن أن تؤدي في وقت لاحق إلى تطبيقات مهمة. وعلاوة على ذلك، وحتى يكون البحث مثمراً بحقّ، يجب أن تتوفر لدى العلماء حرية في استكشاف كلّ أنواع المسارات والأفكار.

كان من المقرّر مناقشة استراتيجية العلوم والتكنولوجيا من قبل الجامعة العربية في القمة التي كانت مبرمجة في مارس/ آذار عام 2011؛ لكن الاجتماع لم يعقد، في خضمّ الربيع العربيّ، وعلى حدّ علمي فإن استراتيجية العربية للعلوم والتكنولوجيا هي قيد الانتظار.
وفي حين أن المشاريع المشتركة مع الأوروبيين والشركاء الآخرين هي بنّاءة، فإنه من المهم أن يكون هناك توازن بين المجالات ذات الأولوية (مثل المياه والطاقة والزراعة والتقنيات الجديدة) من جهة، والأهداف التعليمية والفكرية والاجتماعية للعلوم الأساسية من جهة أخرى.
ذات مرة، سُئل بوب ويلسون، وهو أول مدير لمركز مسارع فيرمي Fermilab، من قبل لجنة في الكونغرس : “ما الذي سيقدّمه مختبرك للدفاع عن الولايات المتحدة؟ ” فأجاب : “لا شيء، ولكنه سيجعلها تستحق الدفاع عنها”.

وكعرب، فإن المساهمة في الحضارة الإنسانية في العلوم كلها (وربما الأساسية خاصة) تجعل حياتنا ذات معنى وتشجعنا في تحقيق مسؤوليتنا الأخلاقية في عمارة الأرض.
ترجمة بسمة ذياب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى