مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أحداث وطنية ومحلية

ذُباب بوليتيكي /أ.محمد الهادي الحسني

عنوان هذه الكلمة مستوحى من كتاب العالم والأديب المصري الأصيل مصطفى صادق الرافعي “وحي القلم” الذي قال عنه الزعيم المصري سعد زغلول: “كأنه تنزيل من التنزيل”، ومن ذاق عرف واعترف.
استعمل الرافعي في كتابه ذاك كلمة “ذباب سياسي”، وعزمت أن أطلقها على كثير ممن رأينا صورهم وصورهنّ، وسمعنا أصواتهم وأصواتهنّ في هذه “الهملة الانتخابية” (بالهاء والحاء)، ولكنني تراجعت لأن كلمة سياسة أشرف من أن يوصف بها الذباب، فاهتديت إلى الكلمة التي يستعملها شعبنا ويطلقها على مثل هذه “الخلايق”، وهي “البوليتيك”.

إن السياسي الحقيقي هو رجل نظيف اليد، عفيف الفم، شريف الهدف، وإن السياسة الحقيقية ليست “لعبة” ولو كانت لها قواعد؛ وإنما هي “جزء من العقيدة… ونوع من الجهاد” (1)، و”ما الإسلام الصحيح بجميع مظاهره إلا السياسة في أشرف مظاهرها (2)”.

وإن “البوليتيكي” هو الطمّاع، المنّاع، الخدّاع، الذي يعيش نصفه العلوي للرشوة والنشوة ونصفه السفلي للشهوة.. وإن “البوليتيك” هو الكذب الملوّن، و”الزبالة العقلية”، و”اللسان المرقّع”، والسفالة الأخلاقية.

لقد وردت كلمة الذّباب في القرآن الكريم مرتين، وفي ذلك في قوله سبحانه وتعالى: “يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعُف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره” (سورة الحج، الآية 73 – 74). وقد ذكر الإمام القرطبي أن الذّباب خصّ بالذكر لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، ولكثرته.

إن كثيرا ممن رأيناهم في هذه “الهملة الانتحابية” (بالهاء والحاء) ينطبق على كل واحد قول الشاعر:

إذا بدا وجهه لقو م لاذت بأجفنها العيون

وإن كثيرا ممّن رأيناهن ينطبق على كل واحدة قول الشاعر الآخر:

إذا عاين الشيطان صورة وجهها تعوّذ منها حين يمسي ويصبح

وأما ما سمعناه من كثير منهم ومنهن فيجعلنا نترحم على فيلسوف المعرة، أبي العلاء، لقوله:

عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أطير

هذا من حيث المبنى، وأما من حيث المعنى والمستور الثقافي فلعل أصدق ما يُوصف به كثير من هؤلاء قول شاعر عن أحد الجاهلين:

لو قيل كم خمسّ وخمس لأغتدى يوما وليلته يعُدّ ويحسب

ويقول:

معضلة عجيب أمرها ولئن فهمت لها لأمري أعجب

خمسّ وخمس ستة أو سبعة قولان قالهما الخليل وثعلب (❊)

إن كثيرا من الناس (ذكرانا وإناثا) يسبغ عليهم الله – عز وجل- نعمة ستره فلا يرضيهم ذلك فيروحون يكشفون عوراتهم الأخلاقية من جهل، وكذب، ونفاق، وتملق، وطمع، وجشع.. وترى ذلك في وجوههم (المقزدرة)، وفي طريقة كلامهم التي تذكر بقول الشاعر:

وتحسب العين فكّيه إذا اختلفا عند التّنغم فكّي بغل طحّان

إن هذا التردي الأخلاقي واللّهاث للثلاثين مليونا ولما لا نعلم من أطماع قد كشفا معادن الناس، فتبيّن الرخيص والثمين، والغث والسمين، فهذا يقرأ شعرا ويحسبه شعيرا لأنه لا يملك إلا ما سماه أحد الظرفاء “الأعضاء الآكلة”، وذاك يبيع نفسه بثمن بخس، ويخون صاحبه من أجل دينار أو نصفه أو ثلثه، وتلك “تطلي” وجهها بما سماه ظريف آخر “أحمر السياسة”، وتكشف عن ساق، وصدر، وتحمل عى رأسها سناما كأسنمة البخت، وأكثر هذا الذباب البوليتيكي ينتهج سياسة الشيطان الذي يعد ويمنّي، وما يعد الشيطان إلا غرورا.

قال الإمام عبدالحميد ابن باديس، رضي الله عنه وأرضاه:

وعن صدق إحساس تأمل فإن في ملامح وجه المرء ما يكسب العلما

وقد تأمّل الجزائريون في ملامح هذا الذّباب البوليتيكي فعلموا أنهم وأنّهن سيكونون وسيكنّ على الجزائر نوائب ونائبات.. وماذا ترجو من كائنات “تبشّر” الجزائريين بـ”الخير” وتفتح مداومتها في مرحاض عمومي، استأجر “للهملة الانتحابية” (بالهاء والحاء) مع شرط بقاء المرحاض في خدمة…(3)؟

وماذا يأمل الناس من حزب “يمُنّ” على الجزائريين، حتى ليكاد يزعم أنه هو الذي “خلقهم” بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ويعدهم بجنة عرضها الجزائر، ولكنه لم يجد مكانا لهملته الانتحايبة إلا محلاّ لبيع الخمور (4)؟

إن الذباب الطبيعي أشكال وألوان وأوزان، ومنه الذبابة السوداء، والذبابة طويلة الأرجل، وذبابة تسي تسي، وذبابة الرمل، وذبابة الفاكهة، وذبابة اللحم، وذبابة النار…(5) والأمر الجامع بين هذه الأنواع كلها هو أنها ضارة بالنخل، والسخل (❊❊)، والنسل، حتى إن بعض هذا الذباب اعتبر عقبة في وجه انتشار الحضارة..

إن الأمر لا يختلف بالنسبة للذباب البوليتيكي، فهو أيضا أشكال منحرفة، وألوانه ذاكنة، وأوزان “أخفّ من الهباء”، وأضرار هذا النوع من الذباب أخطر من أضرار الذباب الطبيعي، لأن ذلك الذباب قد صُنع له مادة (د.د.ت) للقضاء عليه، فبماذا نقضي على الذباب البوليتيكي؟

لقد فتحت الأبواب، وفُسح المجال لهذا الذباب البوليتيكي ليملأ الجزائر طنينا، وينشر الجراثيم الأخلاقية عبر الجزائر.

إنه ليحزننا أن ينتبه أعداؤنا إلى أهمية الأخلاق في العمل السياسي فيعلن فرانسوا بايرو، أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية، “أن القيم أهم من البرامج (6)”، ويتعهد فرانسوا هولاند، المرشح الآخر للانتخابات بأنه في حال فوزه سيصدر قانونا “لأخلقة السياسة (7)”؛ بينما يرفع السماسرة عندنا شعار “العب لعبك”، وشعار “في النهار اكذب وفي الليل احسب”، وينتقل هذا الذباب البوليتيكي من “حزب” إلى “حزب” كما ينتقل الذباب من… إلى… وكأن الشاعر عنى كل واحد من هؤلاء بقوله:

مالي رأيتك لا تدو م على المودة للرجال

خلقّ جديد كل يو م مثل أخلاق البغال

إن المتأمل فيما رأى وما سمع في هذه “الهملة الانتحابية” (بالهاء والحاء) يكاد يجزم أن “أمانة الرجولة” في سكرات الموت وذلك منذ:

احتل حصن الحق غير جنوده وتكالبت أيد على المفتاح

هل يستطيع اللص أن يقول للناس لا تسرقوا؟، وهل يستطيع الغاش أن يقول للناس لا تغشوا ولا تزوروا؟ وهل يستطيع راش ومرتش أن يقول للناس لا ترشوا ولا ترتشوا؟ وهل يمكن لمن يسخر نفسه للأجنبي أن يحافظ على الأمانة ويصون الوديعة؟

لك الله أيتها الجزئر الحبيبة، وأيم الله إنك لحقيقة بأن يبكي عليك المخلصون – لما آلت إليه حالك – دماء بدل الدموع، وعسى الله أن يغير حالك الأسوأ إلى حال أقل سوءاء، فأنت الآن بين “ذئاب تغتال وثعاب تحتال”، وأعود إلى مصطفى صادق الرافعي الذي يقول: “إن الأمة التي لا يحكمها الصادق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذبا وهزلا (8)”.. وما أجمل قول الأحنف بن قيس عندما سأله معاوية ابن أبي سفيان: “كيف الزمان؟”، فأجانب: “الزمان أنت، إن صلحت صلح، وإن فسدت فسد”. واللهم لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.

هوامش:

1- 2) آثار الإمام الإبراهيمي، ج 4. ص 260 – 261.

❊) الخليل وثعلب، عالمان من علماء اللغة.

3) جريدة النهار.. 30 / 4 / 2012 ص3.

4) جريدة الخبر.. 30 / 4 / 2012 ص 27.

5) أنظر الموسوعة العربية الميسرة مادة ذباب..

❊❊) السّخل: صغير الغنم من الماعز والضأن مفرده سخلة .

6 -7) جريدة الخبر: 4/27 / 2012 ص6.

8) وحي القلم ج2. ص 216. مكتب الإيمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى